يكاد يكون التنافس أحد نواميس الكون وواحداً من أهم السمات البشرية سواء على مستوى الأفراد أم الدول. واليوم يبدو التنافس العالمي بين أمريكا والصين أحد الموضوعات المثيرة التي تحتشد بها الدراسات والكتب في كل المجالات ابتداءً من القوة العسكرية والاقتصادية وحتى مظاهر القوة الناعمة الأخرى. أصبح السؤال يفرض نفسه وبما لا يمكن لأحد تجنبه أو تجاهله. لمن تكون الغلبة والتفوق في هذا التنافس الأمريكي الصيني؟ وبصرف النظر عمّا إذا كان البعض يسميه تنافساً أو صراعاً أو حرباً باردة فالمهم هو المضمون لا التسمية.
وفي المضمون علينا أن نعترف ابتداءً أن محددات أو معايير التنافس أو الصراع متعددة ومختلفة ولا يمكن حصرها في محدد أو معيار بعينه، فللقوة مظاهر شتّى. فماذا سيحسم مستقبل التنافس الأمريكي الصيني: هل القوة الاقتصادية وحدها؟ أم القوة العسكرية؟ أم القوة التكنولوجية؟ أغلب الظن أن معيار أو محدد التنافس بين الدولتين العظميين سيكون مزيجاً من قوة الاقتصاد وقوة الجيوش وقوة التكنولوجيا، وسيكون للقوة الناعمة أيضاً دورها وهي التي تبدو الولايات المتحدة الأمريكية فيها متفوقة بشدة اليوم حيث أصبح نموذجها الحياتي المعيشي هو الأكثر إغراءً في العالم، فأفلامها السينمائية، وموسيقاها، وفنونها، وصيحات ملابسها، وباقي طرق العيش فيها مازالت تستقطب معظم شباب العالم، هذا فضلاً عن نظمها السياسية والإدارية.
ويصعب بالطبع حصر كل محددات ومعايير التنافس بين الدول، الأمر يحتاج لكتاب كامل، ومع ذلك يمكن القول في حدود هذه المساحة، أن هناك أربعة معايير يمكن من خلالها محاولة قراءة مستقبل ومآل التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
هناك أولاً معيار القوة الاقتصادية التي مازالت الولايات المتحدة الأمريكية تتربع فيها على عرش الاقتصاد العالمي بإجمالي ناتج محلي قدره 20.9 تريليون دولار مقابل إجمالي ناتج محلي للصين قدره 14.7 تريليون دولار بحسب بيانات البنك الدولي لعام 2020. لكن الملاحظ بشدة هو التصاعد بوتيرة لم تنقطع للناتج الإجمالي المحلي الصيني طوال السنوات الماضية.
وتقود كل التنبؤات الاقتصادية للباحثين والمؤسسات أن إجمالي الناتج المحلي الصيني سيتجاوز نظيره الأمريكي بحلول 2030، وربما قبل ذلك لكي تصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم إذا لم يظهر متغير طارئ غير متوقع يعطل حركة تقدمها. بل أنه بحساب إجمالي الناتج المحلي للقدرة الشرائية بالدولار، فإن الصين اليوم تأتي الأولى عالمياً بناتج قدره 21.4 تريليون دولار مقابل 18.5 تريليون للولايات المتحدة الأمريكية. وعلي صعيد اقتصادي آخر مجاور هو قيمة صادرات الدولة، تأتي الصين اليوم في المركز الأول عالمياً بإجمالي قيمة صادرات قدرها 2.6 تريليون دولار مقابل 1.4 تريليون دولار للولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن الأرقام السابقة في صالح الصين فمازالت نقطة الضعف في الاقتصاد الصيني العملاق أنه لم ينعكس بعد على مستوى معيشة الفرد ومازال متوسط الدخل الفردي من إجمالي الناتج المحلي في الصين أقل بكثير من نظيره في المجتمعات الغربية، حيث يصل الى 16800 دولار للفرد سنوياً، بينما يبلغ في الولايات المتحدة 66 ألف دولار، أي أن متوسط دخل المواطن الأمريكي يزيد أربع مرات على نظيره الصيني.
هناك ثانياً معيار القوة العسكرية الذي تأتي فيه الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأولي عالمياُ وتحتل الصين المركز الثالث عالمياً. مازالت القوة العسكرية الأمريكية هي الأولي والأعظم برغم النمو الكبير والمتصاعد للإنفاق العسكري في الصين الذي بلغ وفقاً لأحدث الأرقام 237 مليار دولار سنوياً، بينما وصل الإنفاق العسكري الأمريكي إلى رقم هائل بلغ 750 مليار دولار، هذا يعني أن الإنفاق العسكري الأمريكي يزيد على مجموع الإنفاق العسكري لدول أوروبا مجتمعة.
أما على صعيد معيار التقدم المعرفي ثالثاً في أهم مؤشراته مثل التعليم والابتكار وحركة التأليف والنشر، فإن أرقام المقارنة بين الولايات المتحدة والصين تنطوي على درجة بالغة من الإثارة، فوفقاً لمؤشر أفضل الجامعات في العالم لعام 2020 هناك 80 جامعة أمريكية في قائمة المائة جامعة الأفضل مقابل 4 جامعات صينية فقط. لكن الفجوة بين الدولتين تتضاءل في قائمة الـ 500 جامعة الأفضل، إذ تحتل الجامعات الأمريكية فيها 129 مركزاً مقابل 84 للجامعات الصينية بما في ذلك بعض جامعات هونج كونج التي يدرجها تصنيف شنغهاي ضمن الجامعات الصينية.
وفقاً لمؤشر معرفي آخر هو عدد براءات الاختراعات تبدو المفاجأة أنه في عام 2020 تسبق الصين الولايات المتحدة حيث بلغ عدد براءات الاختراعات المسجلة للصين 68720 براءة اختراع مقابل 59230 براءة اختراع للولايات المتحدة الأمريكية. يزداد الرقم السابق أهمية ودلالة حين نعرف أنه في عام 2009 أي منذ 12 عاماً كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تسبق الصين إذ سجلت 45616 براءة اختراع مقابل 7900 براءة اختراع فقط للصين. هذا يعني أنه خلال العشر سنوات الماضية حققت الصين طفرة في عدد براءات الاختراع بزيادة قدرها أكثر من %800.
يتجلى مؤشر المعرفة أيضا على صعيد حركة التـأليف والنشر لصالح الصين، فوفقاً لإحصائية نشر الكتب الصادرة عن اليونسكو، تنشر الصين 440 ألف كتاباً مقابل 304 ألف كتاباً في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلي صعيد معيار الثروة المعدنية تبدو الصين كقوة عالمية عظمى وحيدة بمخزونها الوفير من المعادن بحسب بيانات الماسح الجيولوجي الأمريكي نفسه، فالصين تنتج من معدن السيليكون مثلاً 4.6 مليون طن سنوياً مقابل 396 ألف طن للولايات المتحدة الأمريكية.
وتمثل الصين قوة هائلة على صعيد مخزونها من المعادن النادرة التي تمثل ثروة المستقبل وهي خليط من 17 عنصراً كيميائياً تستخرج من قشرة الأرض. وتنتج الصين وحدها من هذه المعادن النادرة %57 من إنتاج العالم، بينما تنتج الولايات المتحدة %12 فقط من المعادن النادرة. وتتمثل أهم استخدامات هذه المعادن في التصنيع الإلكتروني والتقنيات الرقمية وعلاجات السرطان.
الأرقام السابقة في الواقع ليست إلا جزءاً من أرقام كثيرة لا تخلو من دلالة لقراءة مستقبل حركة التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ولعلّ هذه الدلالات لا تنفصل عن الأزمات السياسية الصريحة تارةً والمكتومة تارةً أخرى بين أمريكا والصين والتي ما أن تهدأ أزمةً منها حتى تشتعل أخرى!