ليس من قبيل المبالغة الاعتقاد بأن مصير كوكب الأرض أصبح مرتبطاً إلى حد كبير بمستقبل التطبيق الفعلي لاتفاق باريس للمناخ الموقع عليه في ديسمبر 2015. وهو الاتفاق الذي انسحبت منه الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ثم عادت إليه في عهد رئيسها الحالي جون بايدن. الاتفاق ينصب على قضية التغيّر المناخي التي تمثل مع قضايا التلوث، وتآكل طبقة الأوزون، والتنوع البيولوجي رباعية أزمة البيئة في العصر الراهن.
تحول التغير المناخي من مجرد هاجس كان ينتاب البعض بالأمس إلى خطر حقيقي اليوم، ثم ها هو الخطر ينذر بكوارث في الغد هنا أوهناك، بل إن بعضاً من هذه الكوارث قد وقع بالفعل. وما لم ينجح العالم في إيقاف عجلة التغير المناخي فلا أحد يعلم إلى أين نحن ماضون. وإذا استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة بمعدلاتها الحالية فالمتوقع أن ترتفع درجة حرارة الأرض بمقدار درجة مئوية في عام 2025. استمرار ظاهرة الاحتباس الحراري بسبب معدلات الغازات الدفيئة سيفضي على هذا النحو إلى ارتفاع مستوى البحار بمقدار 1.5 متر بحلول العام 2100. وإذا أخذنا في الاعتبار أن هناك نحو 150 مليون شخص يسكنون مناطق يقل ارتفاعها عن متر واحد من مستوى سطح البحر فإن المشهد يبدو مقلقاً ومنذراً بالمخاطر بعد عدة عقود فقط من الآن.
يأتي اتفاق باريس للمناخ ضمن سلسلة مؤتمرات وإعلانات واتفاقيات دولية كان أبرزها مؤتمر قمة الأرض في ريودي جانيرو بالبرازيل عام 1992، واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ التي دخلت حيز النفاذ في عام 1994 وصادقت عليها 191 دولة، ثم بروتوكول كيوتو في اليابان عام 1997 والذي يعتبر تمديداً للاتفاقية الإطارية وصادق عليه 174 بلداً ودخل حيز النفاذ في عام 2004، وأخيراً جاءت اتفاقية باريس للتغير المناخي في 2015 كتتويج لعدة مؤتمرات دولية سابقة عليها في كوبنهاجن 2009، وكانكون بالمكسيك 2010، وديربان في جنوب أفريقيا 2011، ثم مؤتمرات الدوحة و وارسو وليما في الأعوام الثلاثة التالية.
أهم وأبرز ما تضمنه اتفاق باريس للمناخ هو بحسب حرفية نص المادة 1-2 (أ) الإبقاء على ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية في حدود أقل بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية ومواصلة الجهود الرامية إلى حصر ارتفاع درجة الحرارة في حد لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية، تسليماً بأن ذلك سوف يُقلّص بصورة كبيرة مخاطر تغير المناخ وآثاره. ولتحقيق هذه الأهداف تم إنشاء صندوق قوامه 100 مليار دولار أمريكي لتمويل قضايا المناخ وتقديم المساعدة المناخية للدول النامية، ويستمر حشد التمويل حتى عام 2025 حيث سيتم إعادة النظر في هذا المبلغ، وقد طالبت الدول النامية بأن يكون هذا المبلغ السنوي المقدّر هو الحد الأدنى الجدير بالزيادة.
للوصول إلى تخفيض درجة الحرارة العالمية بمعدل 2 درجة مئوية ثم 1.5 درجة مئوية فهذا يفرض تقليصاً كبيراً لانبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري وهو ما يُطلق عليه الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وأكسيد النيتروز، وهو ما يتطلب اتخاذ إجراءات للحد من استهلاك الطاقة، وزيادة الاستثمار في الطاقات البديلة، وإعادة تشجير الغابات. ثمة إدراك عالمي إذن بخطورة ظاهرة الاحتباس الحراري وما يصحبها من تغيرات وآثار سلبية مثل التصحر، ونقص الغذاء والماء، وتهديد الكثير من المدن المطلة على البحار بسبب ارتفاع مستوى مياه البحر الناشئ عن ذوبان الجليد في القطبين بفعل ارتفاع درجة الحرارة.
بعض الدول الصناعية المتقدمة ضربت موعداً منذ الآن للتوقف عن استخدام النفط والديزل في وسائل المواصلات مثل الدانمارك التي أعلنت أنه بحلول العام 2030 سيتوقف استخدام النفط والديزل في تشغيل السيارات والمواصلات العامة، وأعلنت فرنسا الهدف ذاته بحلول العام 2040.
الطموحات والأحلام التي أثارها اتفاق باريس للمناخ تصطدم رغم ذلك بتحديات وإشكاليات مبعثها حقيقة أن الدول الصناعية الكبرى هي المتسبّبة بالنصيب الأكبر في ظاهرة الاحتباس الحراري بينما الدول النامية صاحبة المسؤولية الأقل والمتضررة من الظاهرة نفسها لا تمتلك الموارد والإمكانات الكافية. هناك 3 دول صناعية كبرى تتسبّب وحدها في %42 من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة، فالصين تتحمل %22.7 من إجمالي هذه الغازات، والولايات المتحدة الأمريكية %15.6 والهند %5.7. أما الدول العربية جميعها فلا تتجاوز نسبة الغازات الدفيئة المتسبّبة فيها %5.5 من إجمالي الغازات الدفيئة في العالم. وإزاء تفاوت مسؤولية الدول عن ظاهرة الاحتباس الحراري ومدى ما يتوافر لها من موارد وإمكانات تطالب الدول المتقدمة بزيادة المساهمة المالية لدول أخرى مثل الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وكذلك الدول النفطية.
إحدى الإشكاليات التي أثارتها النقاشات خلال قمة باريس التي أفرزت اتفاق باريس للمناخ تتمثل فيما يُعرف بآلية وارسو المعنيّة بتحديد الخسائر والأضرار وما يرتبط بها من تعويضات. تضمن اتفاق باريس العمل على تعزيزه آلية وارسو، وهذه مسألة دقيقة وشائكة بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة المتسببة أكثر من غيرها في ظاهرة الاحتباس الحراري وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية التي تخشى الوقوع في مطالبات قضائية. ولهذا عالج اتفاق باريس للمناخ هذه المسألة بحذر فلم يتطرق إلى تحديد الإجراءات العملية الخاصة بتطبيق آلية وارسو، وتوصلت دول اتفاق باريس للمناخ إلى إدراج بند يوضح أن الاتفاق لن يشكل قاعدة لتحديد المسؤوليات أو المطالبة بتعويضات.
خلاصة القول إن اتفاق باريس للمناخ الذي دخل حيّز النفاذ رسمياً في نوفمبر 2016 وصادقت عليه 189 دولة يحمل من الآمال قدر ما يختزن من الصعاب والتحديات. العودة الأمريكية بمجيء جون بايدن رئيساً أنعشت الآمال بعد فترة سادها الإحباط، لكن ما زالت مسألة توزيع الأنصبة المالية بحسب أنصبة المسؤولية عن الاحتباس الحراري قضية محل جدل ولم تُحسم نهائياً بعد. ربما يكون لأحزاب البيئة في الدول الغربية وغيرها دور كبير ومنتظر في دفع قضية التغير المناخي ومجمل قضايا البيئة قُدماً إلى الأمام فيما لو نجحت سياسياً في اختراق احتكار الأحزاب التقليدية للعبة السياسية على الصعيد الدولي.. لكن كيف ومتى وأين يحدث ذلك؟ هذا سؤال أيديولوجي وسياسي واجتماعي وحده المستقبل يمكن أن يقدم إجابة عليه!