لعلّ ما تضمنه تقرير التنمية البشرية في بداية الألفية الجديدة بشأن واقع الترجمة في العالم العربي ما زال مفاجأة تتردد أصداؤها حتى اليوم. وبصرف النظر عمّا أثير من جدل حول الرقم المعلن (ومعظم أرقامنا مثيرة للجدل) فقد كان صعباً ومدهشاً أن نكتشف أن ما ترجمه العرب منذ عهد الخليفة المأمون حتى صدور التقرير لا يزيد عما تترجمه دولة مثل إسبانيا في عام واحد! والرقم- بفرض صحته- كاشف عن مفارقة ومُثير للتساؤل. المفارقة مبعثها أن العرب كانوا هم الأسبق يوماً في ترجمة التراث الفكري لدى اليونان والإغريق وعنهم أخذ الآخرون فيما بعد! أما التساؤل فهو ما إذا كنا أقل اهتماماً من غيرنا بنشر العلم وتكريس قيمة المعرفة والانفتاح على الثقافات الأخرى؟
للوهلة الأولى الرقم المعلن يوحى بذلك. فلا يمكن إغفال دور الترجمة في الوصول إلى مجتمع المعرفة. ولا يقلل من أهمية الترجمة وضرورتها ما يراه البعض من أن إجادة اللغات الأجنبية وتحديداً اللغة الانجليزية يمثل بديلاً عنها. فالترجمة تبقى جسراً للتعرف على علوم ومعارف الآخرين والتواصل مع ثقافتهم على أوسع نطاق ممكن في ذات الوقت الذي تكفل فيه توظيف اللغة العربية وإحيائها وتطوير أدواتها لمواكبة التطور الحاصل في علوم ومعارف العصر.
والواقع أننا حتى بالنسبة لمن يجيدون لغات أجنبية ما زلنا أقل إقبالاً على القراءة من غيرنا. والدليل على ذلك أن متوسط عدد نسخ أية طبعة لكتاب عربي جديد في الأدب أو الفكر لا يتجاوز في أحسن الاحوال خمسة آلاف نسخة، بينما يصل هذا المتوسط داخل بلدان كفرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا إلى أكثر من مائة ألف نسخة. وإذا اخذنا في الاعتبار أن متوسط عدد السكان في هذه البلدان هو 60 مليون نسمة بينما يصل عدد القراء باللغة العربية الى 377 مليون نسمة وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان، وإذا استبعدنا من هذا الرقم نحو 70 مليون عربي أمي لا يعرفون القراءة، فمعنى ذلك أن معدل القراءة في مثل هذه المجتمعات يزيد 40 مرة على الأقل على معدل القراءة في المجتمع العربي. وهو ما يعنى أيضاً إذا واصلنا لعبة المتواليات الرقمية ان معدل المعرفة لدى العرب لا يزيد عن 2 أو %3 من معدل المعرفة في أوربا.
كانت الترجمة وما زالت عبر كل مراحل التاريخ القديم والحديث أداة هامة لنقل المعرفة والتعرف على الثقافات الأخرى. ولربما اختلفت وظيفة الترجمة ومدى الحاجة اليها بحسب مواقع المجتمعات على طريق الحضارة الإنسانية. فقد تترجم شعوب عن أخرى لمجرد الفضول في شيء أقرب الى “الفولكلور”! بينما تبدو الترجمة لشعوب أخرى ونحن من بينها بالتأكيد حاجة ملحة بدونها لا تكتمل المعرفة بحركة التقدم الإنساني في الكثير من المجالات.
قضية الترجمة إذن ترتبط بعدد من القضايا والظواهر الاخرى في المجتمع العربي وعلى رأسها العزوف عن القراءة وإهمال الاستثمار في صناعة المعرفة. لكن يبدو أن السنوات الأخيرة أخذت تشهد تغيراً إيجابياً في نظرة العرب إلى قضية الترجمة. فقد زاد الاهتمام بها وانطلقت في العديد من البلدان العربية مبادرات ومشروعات متنوعة للترجمة. ولم يقتصر الاهتمام على صعيد المؤسسات الرسمية بل تعداها الى المؤسسات الثقافية الأهلية التي وضعت الترجمة على قائمة أولوياتها. كما خصصت العديد من المؤسسات مانحة الجوائز جائزة للترجمة.
السؤال الآن هو ماذا بعد الترجمة؟ وهل حققت حركة الترجمة المتزايدة على يد مؤسسات عربية رسمية وأهلية الأهداف المرجوّة منها؟ وكيف السبيل لأن تصبح الترجمة أداة فاعلة لتكريس مجتمع المعرفة؟ لعل هذا الجهد الكفيل بتحقيق القيمة المضافة للترجمة يتطلب ما يلي:
أولاً- ضرورة الاهتمام بنوعية الاصدارات المترجمة وجودتها في ظل هذا السيل الجارف من ترجمات تفتقر أحيانا إلى الدقة والتجويد والإتقان. فالحرص على إصدار أكبر عدد ممكن من الترجمات سنوياً والتسابق بين المؤسسات العربية على تحقيق ذلك هو أمر حميد. لكن هذا النجاح “الكمي” جدير بأن يستوفى معايير الجودة ومتطلبات الإتقان. والواقع أن قضايا وإشكاليات الترجمة باتت معروفة، وقد ناقشها المتخصصون في الكثير من المؤتمرات والمنتديات. ولئن كان ثمة إجماع على أن “المترجم” هو العصب الحيوي في كل مشروع للترجمة فإن الاهتمام بأوضاع المترجم وحقوقه ينبغي أن يأتي على رأس الأولويات في الحديث عن قضية الترجمة.
ثانياً- أن تنتقل الاصدارات المترجمة من أرفف المعارض والمكتبات إلى أيدي الناس! فالملاحظ أن معظم الكتب المترجمة التي تتوالى عناوينها وتتزايد أعدادها غالبا ما ينتهي بها المطاف إلى مخازن المرتجعات دون أن يعلم بها أو يستفيد منها الكثيرون. ومن هنا فلا مناص من ابتكار وسائل جديدة لكي تصبح الكتب المترجمة في أيدي الجمهور الأكثر احتياجاً لها والاقل قدرة على شرائها، وهم بصفة أساسية الشباب في الجامعات والمدارس الثانوية، إما من خلال فتح منافذ جامعية جديدة لها، أو إهدائها الى الطلاب المتفوقين في الكليات والمعاهد، أو عن طريق عرضها للبيع بثمن زهيد. فالواقع أن الجمهور الذي تصل اليه الكتب المترجمة هو الذي يقتنيها في الغالب بلا مقابل، أو يدفع فيها ثمناً لا يمثل لديه أدنى عبء مادي. أما معظم الشباب المتعطش للقراءة فهو المرهق بثمن الكتاب المرتفع وسط ظاهرة الغلاء المستشري في معظم البلدان العربية. صحيح ان هناك تجارب عربية ناجحة استطاعت أن تجعل الكتاب في متناول الكثيرين بثمن زهيد لكن المطلوب الآن هو توظيف هذا المشروع في نشر الكتب المترجمة الحديثة في مختلف مجالات الإبداع وإتاحتها لأكبر عدد من القراء.
ثالثاً- ضرورة خلق حالة من النقاش والحوار حول مثل هذه الكتب المترجمة من خلال ندوات تستضيفها ليس فقط المؤسسات الثقافية على اختلافها بل ايضاً البرامج الثقافية في الفضائيات التي تزدحم بها سماؤنا العربية! فالملاحظ أنه ليس لدينا حتى الآن برنامج تلفازي أسبوعي أو شهري يخصص لمناقشة الكتب الجديدة أو المترجمة في حوار يجمع بين المؤلف والناقد والقارئ على غرار ما نشاهده من برامج ممتعة وجادة في المحطات الأجنبية. إن نقل الثقافة الجادة من أرفف المكتبات وصفحات الكتب إلى شاشات الفضائيات الأكثر انتشاراً واختراقا والأشد إبهاراً هو أحد تحديات المرحلة.
آن الأوان لكيّلا تبقى المعرفة والفكر والثقافة حكراً على المتخصصين والنخبة فقط، فما زالت صرخة الراحل المبدع يوسف إدريس “أهمية أن نتثقف يا ناس” صالحة لأن نطلقها اليوم رغم أي حديث عن المتاعب المعيشية والمعاناة الاقتصادية. إن طريق مجتمع المعرفة يجب أن يمر من هنا!