قفزت منازعات التحكيم التجاري الدولي بنسبة %37 في 8 أعوام متتالية، عُرضت على 13 مؤسسة تحكيمية عالمية، ليبلغ عددها 7222 منازعة في 2019 بعد ما كان مجموعها 4521 منازعة في 2012. وقدّرت نسبة الزيادة السنوية بـ %5.5 على مدار الفترة الزمنية نفسها.
استحوذت لجنة التحكيم الاقتصادي والتجاري الدولي(CIETAC) على النصيب الأكبر من قضايا المنازعات التجارية مقارنة بالمؤسسات التحكيمية الاثني عشر الأخريات، بمجموع 3333 منازعة، تلتها غرفة التجارة الدولية (ICC) التي نظرت 869 منازعة، والترتيب الثالث كان من نصيب المركز الدولي لتسوية المنازعات (ICDR) الذي عُرض أمامه 882 منازعة تجارية. أما الترتيب الرابع والخامس كان من نصيب مركز سنغافورة للتحكيم الدولي(SIAC)، ومجلس التحكيم التجاري الكوري(KCAB)، بمجموع 479 و443 منازعة على التوالي في عام 2019. كما هو موضح بالشكل أدناه.
وإذا كانت مؤسسات التحكيم تضطّلع بنظر كافة منازعات التجارة الدولية لاسيما دعاوى تسوية منازعات الاستثمار، إلا أن السواد الأعظم منها يُرفع أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) التابع للبنك الدولي، والذي نظر بدوره 376 دعوي في الفترة ذاتها من 2012 حتى 2019.
ولعلّ الزيادة المضّطردة في تلك المنازعات مرجعها ما تُبرمه الدول من عقود تجارية لتعزيز نشاطها الاقتصادي، فضلاً عن العلاقات الناشئة بين المستثمرين والدول المضيفة لهم. وتسعى الدول وبالأخص الدول النامية، إلى تعظيم حجم الاستثمار الأجنبي المباشر لديها، إذ يلعب دوراً محورياً في تنميتها الاقتصادية وتكثيف مواردها. على الرغم من انخفاض هذا النوع من الاستثمار بنسبة 40% في 2020 نتيجة لتداعيات أزمة كورونا المستجد على الاقتصاد العالمي ليقلّ عن ترليون دولار بعد أن وصل حجمه إلى 1.54 ترليون دولار في 2019، كان نصيب الدول النامية منها 685 مليار دولار (تقرير الاستثمار العالمي2020). ومع تلك النسبة الكبيرة من الانخفاض تكون الدول النامية مدعوة – أكثر من ذي قبل – إلى تعزيز مناخ الاستثمار لديها على المستوى القانوني والاقتصادي والإداري، فضلاً عن منح الضمانات اللازمة لطمأنة المستثمر الأجنبي لتصبح الدول أكثر تنافسية وجذباً لرؤوس أمواله.
بيد أن مؤسسات التحكيم الدولية الآنف ذكرها تعتبر ضمانة في حد ذاتها لأطراف المنازعات التجارية، لاسيما وأن العلاقة بين أطراف الاتفاق التجاري الدولي، أو المستثمر والدولة المضيفة له – وإن بدت حسِنة في بدايتها– سرعان ما تتبدّل، وتنشأ على إثرها نزاعات قد لا تُحل من خلال وسيلتي التوفيق أو الوساطة – وهي مراحل تسبقُ مراحل التقاضي الوطني أو الموازي (قضاء التحكيم) – لا سيما وأن مصالح الطرفين في الغالب مُتعارضة.
ورُغم ما سنّته الدول من تشريعات لجذب الاستثمارات الأجنبية ورسم طُرق تسوية منازعاتها من خلال قضائها الوطني، إلا أن هاجس الشكّ يظلُ مصاحباً للمستثمر الأجنبي من الامتثال أمامه، حتى مع وجود قضاء مُتخصص لمثل تلك المنازعات كالمحاكم الاقتصادية على سبيل المثال، وتوجس المستثمر من اللجوء إلى قضاء الدولة المضيفة ربما يكون مرجعه تباين المركز القانوني لأطراف النزاع، إذ أن الطرف المقابل دولة ذات سيادة، ولا ريب أن هذا الاختلاف في المركز القانوني بين طرفي النزاع يؤدي إلى صعوبة تحقيق المساواة الكاملة بينهما أمام تلك المحاكم، الأمر الذي قد يؤثر على عدالة وإنصاف إجراءات التقاضي. كما يصطدم المستثمر الأجنبي بعائق آخر هو مبدأ حصانة الدولة ضد التقاضي. فقد تكون الهيئات القضائية الداخلية في الدولة المضيفة ممنوعة من التعرض لتصرفات الدولة. أضف إلى ذلك بُطء إجراءات التقاضي الوطني نتيجة لعدة أسباب أهمها الهدر في الإجراءات وتسويفها من ناحية والتقاعس عن أتمتة أنظمة المحاكم من جهة أخرى فضلاً عن تضّخم عدد القضايا، الأمر الذي ينعكس بالسلب على مصلحة المستثمر الأجنبي نظراً لما تتطلبه منازعات الاستثمار من سرعة فائقة في حسمها وسرية لبياناتها.
وبهدف تجنب المثالب سالفة الذكر يلجأ المستثمرون عادة إلى فضّ تلك الأنزعة من خلال الامتثال إلى التحكيم الذي ينقسم بدوره إلى أولاً: تحكيم خاص؛ يجري عن طريق هيئة يتم إنشاؤها خصيصاً للبت في النزاع وفق قواعد متفق عليها بين المتنازعين، وينتهي وجود الهيئة بانتهاء عملها. ثانياً: التحكيم المؤسسي؛ الذي تضطّلع به مؤسسات دولية رصينة ومتخصصة، مثل المؤسسات الثلاثة عشر المذكورة.
لعل أهم ما يؤخذ على التحكيم الخاص هو أن نجاحه يتوقف في النهاية على استعداد الأطراف المتنازعة للتعاون في سير التحكيم. ففي غيبة الإطار التنظيمي لهذا النوع من التحكيم يغدو سير إجراءاته أكثر عُرضة للتأخير والعرقلة إذا امتنع أحد الأطراف عن التعاون، لا سيّما قبل تشكيل هيئة التحكيم. وقد تتكبد الأطراف نفقات أكثر بشأن الخدمات القانونية اللازمة لصياغة اتفاقات التحكيم الخاص على نحوٍ من الدقة والتفصيل اللازمين لتلافي قيام الصعوبات التي تثار بهذا الشأن.
وقد تؤدي الاعتبارات المذكورة آنفاً بالأطراف إلى الالتجاء إلى مؤسسات التحكيم الدائمة لحل النزاع في إطار نظمها وقواعدها تحت إشراف أجهزتها المتخصصة. إذ تتضمن قواعد التحكيم التي تتبعها تلك الهيئات التي ثبتت فاعليتها في العمل الدولي، نصوصاً تُمكّن من بدء التحكيم واستمراره في حال ما إذا امتنع أحد الأطراف عن المشاركة في التحكيم أو رفض تعيين محكمة. وهذا ما أثر على نمو عدد القضايا المطروحة أمامها لتصل إلى 7222 في عام 2019.
ولما كانت الأهداف المنشودة من تحفيز وتدفق الاستثمار الأجنبي تتمثل في المساهمة في التنمية الاقتصادية للدولة المضيفة من خلال استغلال القدرات التكنولوجية والمالية والإدارية للطرف الأجنبي، وذلك في عمليات استغلال الموارد الطبيعية والتصنيع والإنشاء وغيرها من المشروعات المحددة في خطط الدولة التنموية إلا أن ذلك لا يرفع المسؤولية عن كاهل الدولة التي تتنازل عن كثير من حقوقها أو تصقل التزاماتها لمجرد جذب رؤوس الأموال بداخلها. الأمر الذي قد يفرض على تلك الدول دفع تعويضات هائلة نتيجة إخلالها ببعض التزاماتها من خلال لجوء المستثمر الأجنبي إلى التحكيم المؤسسي التي أضحت أحكامه تتمتع بقوة الأمر المقضي به. فبالقدر الذي تكون فيه تلك الدول مدعوة لتعزيز مناخ الاستثمار لديها، تصبح مطالبة كذلك باليقظة والتبصر إزاء العقود التجارية التي تضّطلع بإبرامها.