ثمة ظاهرتان جديرتان بالانشغال في المشهد الثقافي العربي الحاضر تبدو كلٌ منهما وكأنها تناقض الأخرى ظاهرياً ليصبح التحدي ليس فقط في معالجة كل منهما على حدة ولكن أيضاً وعلى وجه الخصوص في كيفية التوفيق بينهما. الظاهرة الأولى هي تواضع توظيف واستثمار المقوّمات والأصول الثقافية العربية لتصبح أنشطة ذات مردود اقتصادي فيما اصطلح على تسميته بصناعات أو اقتصادات الثقافة والإبداع. والظاهرة الثانية هي ما يمكن تسميته أيضاً بتسليع الثقافة. تبدو الظاهرة الثانية اليوم هي الأكثر إلحاحاً في ظل شكوى عربية عامة- بدرجات متفاوتة- من تراجع المنظومات التعليمية والثقافية في عالمنا العربي. ولهذا ليس من المبالغة القول بأن ظاهرة تسليع الثقافة تبدو السمة السلبية الأبرز في المشهد الثقافي العربي الراهن.
ثمة نقاط ضوء إيجابية داخل هذا المشهد ولو بدت متفرقة أو صغيرة. أجل للأرقام دائماً وقعها السلبي فيما يتعلق بمقارنة الواقع الثقافي العربي مع نظيره في بلدان أجنبية متقدمة، لكن هذا لا ينفي حقيقة وجود مقوّمات وأصول ثقافية عربية كان يمكن وما زال يتوجب توظيفها في صناعات ذات مردود اقتصادي على نحو ما نشاهده في دول أخرى. بل انه بخلاف مسألة تنمية الصناعات والاقتصادات الثقافية والإبداعية تبقى الثقافة بذاتها أحد الأصول الحضارية للأمة التي تتعاظم أهميتها بقدر ما تتفاقم التحديات وربما الأهوال التي تواجه الأمة العربية. أمةٌ طالت أزمة الثقة بالذات فيها إلى حد التشكيك في حقيقتها التاريخية واللغوية والثقافية. لم يكن الكاتب الفرنسي الشهير Albert CAMUS يبالغ حين قال “نعم لديّ وطن.. إنه لغتي الفرنسية”. فاللغة وحدها أصل ثقافي وحضاري للأمة يتجاوز حدود جغرافيتها السياسية من خلال امتداداته التي أتاحها الإسلام في دول يناهز عدد سكانها المليار نسمة، كل هذا وغيره جدير بتوظيفه وتنميته من خلال الإمكانات المتنوعة التي تتيحها اقتصادات الثقافة. في دول أخرى أصبحت الثقافة والإبداع قطاعاً صناعياً واقتصادياً بالغ الأهمية بل ومنتجاً ناعماً يتم تصديره ليحقق للدولة موارد هائلة لا يُستهان بها مثلما تثبت الأرقام والإحصاءات المشار إليها لاحقاً، لكن اللافت للانتباه أن ظاهرة تسليع الثقافة في المجتمعات الأجنبية المتقدمة لم تنتقص من اعتبار الثقافة “حقاً” توفره الدولة لكل مواطنيها بصور ووسائل وآليات وابتكارات شتى لأجل أن تصبح الثقافة متاحةً للجميع بصرف النظر عن تفاوتهم المادي.
والواقع أن الصناعات الثقافية والإبداعية ليست فقط مجرد استثمار في قطاع اقتصادي يسهم بمردوده في الناتج المحلي للدولة كأي قطاع آخر، لكنها أيضاً استثمار في عقل ووجدان الإنسان صانع التقدم وباني النهضة على وجه الأرض. ظهرت الإشارات الأولى لمصطلح الصناعات الثقافية في أربعينيات القرن الماضي في كتاب “جدل حول العقل التنويري” لماكس هوركهايمر وتيودور أدوورنو المنتمين إلى مدرسة فرانكفورت النقدية ولم يخل استخدام المصطلح آنذاك من نظرة سلبية تنتقد فكرة تحوّل الثقافة إلى سلعة تبادلية.
إذا تجاوزنا الجدل الدائر حول المصطلحات المستخدمة فإن اقتصادات الثقافة والإبداع هي – بأبسط تعريف ممكن – الأنشطة الصناعية والتجارية التي تحوّل المضامين الثقافية والإبداعية إلى سلع وخدمات قابلة للتدول بكل الوسائل الممكنة. يثير هذا التعريف مسألتين يجدر عدم الخلط بينهما. الأولى ذات طابع تقريري ومؤداها أن الإبداع يتطلب بالضرورة وجود منظومة من الأنشطة الاقتصادية التي تكفل إنتاجه وتوزيعه وتداوله ليصل إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين، وهذا ما نراه في قطاع التأليف والنشر، والإعلام بكل تجلياته المقروءة والمرئية والمسموعة، والأدب بمختلف صنوفه من السرد والشعر والمسرح، والفن بأشكاله السينمائية والموسيقية والغنائية والتشكيلية. أما المسألة الثانية فهي ذات طابع تقويمي نقدي ترتبط بالجوانب الإشكالية الناشئة عن إخضاع اقتصادات الثقافة والإبداع لقانون السوق وما يرتبط به من اعتبارات العرض والطلب وفقاً لآليات ومعايير الربحية الخالصة، ولعل هذا الجانب الذي بدا منتقداً من قبل مدرسة فرانكفورت يثير في الواقع العربي نقاشاً مطلوباً حول ما إذا كانت الثقافة حقاً من حقوق الإنسان أم أنها سلعة أو خدمة تقدم نظير مقابل مالي.
يعكس الاختلاف الحاصل بشأن المصطلحات والمفاهيم المستخدمة للدلالة على اقتصادات أو صناعات الثقافة والإبداع اختلافاً موازياً حول مفهوم الثقافة والإبداع ذاتهما. وبوسعنا أن نعتبر من قبيل اقتصادات الثقافة والإبداع كل الأنشطة والسلع والخدمات التي تستهدف تنمية العقل والوجدان سواء كان الانفاق عليها حكومياً أو خاصاً. ومن هنا يدخل ضمن مفهوم اقتصادات الثقافة والإبداع قطاعات التأليف والنشر (الورقي والرقمي)، وفنون الإبداع مثل فنون السرد والشعر والموسيقى والسينما والمسرح والغناء والفن التشكيلي، والإعلام بتجلياته المختلفه، وقطاع المتاحف، والجوائز وأشكال التحفيز المادي للمبدعين، وما يرتبط بذلك أيضاً من حقوق الملكية الفكرية. بالطبع يمكن أن يزداد التعريف اتساعاً لو أدخلنا فيه قطاعات أخرى تستهدف تنمية المعرفة مثل التعليم والبحث العلمي، والإعلام الرقمي.
يبدو حجم ناتج “الصناعات الإبداعية والثقافية” في تصاعد ملحوظ ولافت. ووفقاً للأرقام المتاحة المتداولة فقد بلغ هذا الناتج على الصعيد العالمي 2 تريليون و500 مليار دولار أمريكي، ويعمل في هذا القطاع أكثر من 30 مليون شخص وذلك وفقاً لتقرير الصناعات الإبداعية والثقافية لعام 2015. ويتضمن هذا التقرير أحدث إحصائية لمنظمة ال UNCTAD ويظهر من خلالها تفاوت حجم الناتج الاقتصادي من قطاع إلى آخر إذ يحتل قطاع التلفاز الجزء الأكبر من هذا الناتج بقيمة قدرها 477 مليار دولار، يعقبه قطاع الفنون البصرية الذي يبلغ ناتجه 391 مليار دولار، ثم قطاع الصحف والمجلات بقيمة تبلغ 354 مليار دولار. أما قطاعات الأفلام والموسيقى والراديو فتبدو أقل القطاعات الإبداعية والثقافية من حيث حجمها الاقتصادي الذي يُقدر بـ77 و65 و54 مليار دولار أمريكي على التوالي. ويبدو إسهام الصناعات الإبداعية في صادرات الدول في تنام ملحوظ. وتكاد دول غرب أوربا مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك إضافة إلى الصين واليابان تمثل أكبر عشرين دولة تصديراً للسلع الإبداعية وذلك وفقاً لإحصائية منظمة ال UNCTAD. وتأتي الصين على رأس الدول الأكبر تصديراً في العالم إذ قفزت قيمة صادراتها الإبداعية من 32 مليار دولار عام 2002 إلى 84 ملياراً عام 2008 بمعدل نمو قدره 16,9 % وبحصة في السوق العالمي تبلغ 20,8% فيما تأتي الولايات المتحدة الأمريكية تالياً بقيمة صادرات إبداعية قدرها 35 مليار دولار وبمعدل نمو %13,3 لكن الحصة الأمريكية في السوق العالمية لا تمثل سوى %8,6 وهي أقل من نصف الحصة الصينية برغم ما يوحي به الظاهر من هيمنة صناعة السينما والموسيقى والإعلام الأمريكية في العالم مقارنةً بالصين. وتأتي بعد ذلك ضمن العشرين دولة الأكبر تصديراً للسلع الإبداعية كل ألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وسويسرا. ومن آسيا تعد الهند ثم اليابان فتايلاند فسنغافورة هي الدول الأكبر تصديراً للسلع الإبداعية. من هنا السؤال أين موقع العرب على خريطة الصناعات الإبداعية؟