تبني اجراءات التباعد الاجتماعي، والعزل المنزلي التي تستهدف مكافحة فيروس كورونا، علي فرضية منطقية تقول بأنه كلما زاد الالتزام المجتمعي بهذه الإجراءات، قلت فرصة حدوث الإصابات والوفيات، وفي الجائحة الحالية فرضت هذه الإجراءات علي اكثر من مليار إنسان، فكيف كان نمط العلاقة بين الالتزام المجتمعي والمؤشرات الأساسية للوباء، وهي عدد الإصابات وعدد الوفيات؟
التحليلات الإحصائية التى قام بها مركز “جسور”، تشير إلي أن الدول الست التي تمثل البؤرة الرئيسة للوباء، ويتركز بها 83% من الوفيات، و73% من المصابين، شهدت خلال فترة التحليل، علاقة يشوبها الاضطراب وعدم الاستقرار وغياب الاتساق، بين الالتزام المجتمعي، وحصيلة الإصابات والوفيات.
والدول الست المشار إليها ـ كما هو موضح بالشكل المرفق ـ هي الولايات المتحدة واسبانيا وايطاليا وفرنسا والمانيا وانجلترا، وكانت الأوضاع بها كالتالي:
ـ ففي الولايات المتحدة بلغ معدل الالتزام المجتمعي خلال فترة الدراسة، 48.5%، في حين حدث بها 30% من حالات الإصابة و14.8 % من الوفيات عالميا، وهي نسبة وضعت الولايات المتحدة في المركز الأول من حيث الإصابات، والمركز الثالث من حيث الوفيات.
تعني هذه الأرقام أن نصف الشعب الأمريكي تقريبا: جلس بمنازله، والنصف الآخر أو اكثر قليلا، كان بالشوارع والميادين ومقار العمل وخلافه، ومع ذلك سجل الشعب الامريكي، المركز الأول في الإصابات والثالث في الوفيات.
ـ في اسبانيا، بلغ معدل الالتزام المجتمعي 75.5%، مع نسبة إصابات 12% وضعتها في المركز الثاني، لكن عدد الوفيات لدي اسبانيا كان أكثر منه في الولايات المتحدة، حيث بلغت نسبة الوفيات بها 20.5% وهو رقم يضعها في المرتبة الثانية بعد ايطاليا، ويزيد علي حصة الولايات المتحدة من الوفيات بمقدار الربع تقريبا.
طبقا للفرضية التي تقوم عليها إجراءات التباعد والعزل، فإن عدد الوفيات في اسبانيا كان لابد وأن يقل عنه في الولايات المتحدة، بحكم أن معدل التزامها المجتمعي يزيد علي معدل التزام الشعب الامريكي بحوالي 23%، لكن واقعيا تحققت هذه الفرضية علي صعيد الإصابات فقط ، حيث قلت حصة اسبانيا عن حصة الولايات المتحدة بنسبة 18%، لكنها لم تتحقق علي صعيد الوفيات، التي زادت فيها حصة اسبانيا علي حصة الولايات المتحدة بمقدار 5.7%، وهنا نحن امام نمطين مختلفين للعلاقة بين الالتزام المجتمعي والإصابات والوفيات في دولتين تحتلا المركزين الأول والثاني من حيث عدد الإصابات، والثاني والثالث من حيث عدد الوفيات.
ـ ترسم الأوضاع في إيطاليا فروقا قريبة الشبه، بما هو قائم بين الولايات المتحدة واسبانيا، لكنها تصنع فرقا جديدا في الأوضاع بين كل من إيطاليا واسبانيا، فمعدل الالتزام المجتمعي يكاد يكون هو نفسه في البلدين، حيث يصل في ايطاليا الي 73.2%، أي يقل بنسبة 0.1% فقط عن مستواه في إسبانيا، ولذا فالمفترض أن يكون الوضع متساويا من حيث عدد الوفيات والإصابات، ومرة اخري تحققت الفرضية صعيد الإصابات، حيث بلغت نسبة إيطاليا 12% وهي النسبة نفسها الموجودة في إسبانيا تقريبا، لكن نسبة إيطاليا من الوفيات تفوق نسبة إسبانيا، بما يزيد علي الضعف تقريبا، حيث تمثل الوفيات الإيطالية 26.8%، أي تزيد عن وفيات اسبانيا 14.8% ، وهكذا تضعنا أرقام اسبانيا وإيطاليا مجددا أمام واقعين مختلفين في الاصابات والوفيات، رغم تطابق مستوي الالتزام المجتمعي بالبلدين.
ـ تقدم ألمانيا مشهدا مختلفا، فمعدل الالتزام المجتمعي بإجراءات الوقاية يتراجع إلي 36.2%، وإذا طبقنا الفرضية السابقة في ضوء ارقام اسبانيا وايطاليا وامريكا، يكون من المفترض أن يتضاعف عدد الوفيات والإصابات في ألمانيا بمقدار الضعف علي الأقل، لكن الأرقام تقول بالعكس، فنسبة ألمانيا من الوفيات 2.5%، وهو رقم يقل بثلاثة عشر ضعفا عن نسبة ايطاليا، وعشرة أضعاف عن نسبة اسبانيا، و7 أضعاف عن نسبة الولايات المتحدة، أما نسبة المانيا من الإصابات فتصل الي 8.8%، وهو رقم يقل عن نسبة ايطاليا بخوالي الثلث، وعن نسبة فرنسا بحوالي الربع، وبحوالي اربعة أضعاف عن نسبة امريكا.
وهنا تثبت اوضاع ألمانيا ايضا أن العلاقة بين معدل الالتزام المجتمعي والوفيات والإصابات، مكسورة ومضطربة، فما يقرب من ثلثي الشعب الألماني غير ملتزم بإجراءات المكافحة المجتمعية، ومع ذلك لديه معدلات أقل من الوفيات والإصابات.
ـ في فرنسا يرتفع معدل الالتزام المجتمعي الي 62%، وهو معدل يقل بحوالي 10% عن إسبانيا وإيطاليا، وبحوالي 13.5% عن الولايات المتحدة، ويزيد بمقدار الضعف عن ألمانيا، ومع ذلك فإن الوفيات في فرنسا تمثل 13.2% من اجمالي الوفيات العالمية، أي اكثر من خمس نسبة ألمانيا، وحوالي نصف نسبة وفيات ايطاليا، واكثر من ثلثي نسبة وفيات اسبانيا، وتقل عن نسبة وفيات الولايات المتحدة بحوالي 2% فقط، هذا علي الرغم من ان معدل الالتزام المجتمعي يقترب من ضعفه في الولايات المتحدة وألمانيا، ويقل 10% فقط عنه في ايطاليا واسبانيا، وهكذا، يقدم النموذج الفرنسي مجددا، علاقة تبدو في مجملها غير منضبطة ومضطربة بوضوح.
ـ عند مقارنة الواقع البريطاني مع الألماني، نجد الالتزام المجتمعي في ألمانيا أعلي منه في بريطانيا، 36.2% و32.7% علي التوالي، ومن ثم كان المتوقع أن تكون إصابات ووفيات بريطانيا اعلي من إصابات ووفيات ألمانيا، لكن الواقع يقول أن الإصابات تقل في بريطانيا، التي هي أقل التزاما وتصل إلي 4%، وترتفع في ألمانيا التي هي اكثر التزاما وتصل إلي 8.8%، وفيما يتعلق بالوفيات الوضع متوافق مع الفرضية المنطقية، فألمانيا الأكثر التزاما سجلت وفيات أقل، قدرها 2.3% من الوفيات العالمية، وبريطانيا الأقل التزاما، شهدت وفيات أكثر، قدرها 7.5% من الوفيات العالمية.
طبقا للتحليلات التي أجرها باحثو “جسور” باستخدام آلية ………… الإحصائية، فإن مستوي قوة علاقة الارتباط بين الالتزام المجتمعي ومتوسط الإصابات الجديدة يساوي 0.30، وبالمعايير الإحصائية هو ارتباط متوسط، ومستوي قوة الارتباط بين الالتزام المجتمعي ومتوسط الوفيات يساوي 0.82، وبالمعايير الإحصائية هو ارتباط قوي.
إذا ما أضفنا قوة علاقة الارتباط السابقة، إلي المشاهد المضطربة في الدول الست، نخلص إلي أن دور الالتزام المجتمعي في مكافحة كورونا، يحمل في طياته، ما هو اكثر من الفرضية المنطقية، وان السياق العام للأحداث له اليد الطولي في تحديد نمط علاقته بالإصابات والوفيات، وأولي العوامل الفاعلة في السياق، هو توقيت بدء اجراءات الالتزام المجتمعي ونوعيتها، فمن الواضح ان التقيد بإجراءات العزل والتباعد الاجتماعي بهذه الدول، جاء نتيجة الانفجار الذي حدث في الوفيات والإصابات، ولاحقا له، وبطيئا عن موعده، ولم يستخدم منذ البداية وسيلة لتفادي وقوع انفجار العدوي، وهنا يكون الارتباط الإحصائي القائم بين الالتزام المجتمعي والوفيات، والمقدر من قبل باحثي “جسور” بقيمة 0.82معبرا عن تأثير غياب الالتزام المجتمعي، لا معبرا عن عن حضوره وفشله، لان الأوضاع المسببة للوفيات والإصابات نشأت وتحققت، قبل بدء تنفيذ اجراءات العزل الاجتماعي.