الوصول للإنترنت عبر قناة اتصال مباشرة بين المستخدم على الأرض، وشبكة أقمار صناعية عملاقة منخفضة المدار في الفضاء، بلا حواجز ولا محطات تحكم أرضية مدارة من قبل سلطة ما، أمر سيقود إلى صدام كبير بين مبدأ سيادة الدولة على هوائها واتصالاتها، وبين خدمات الانترنت الفضائية، المقدمة من قبل مجموعة قليلة من الشركات العالمية العملاقة، في مقدمتها بل وأبرزها شركة ستارلينك التي بلغت بالفعل التسويق التجاري لهذه الخدمة في نحو 32 دولة حول العالم، وبسبب الصدام المتوقع تفجرت خلال الآونة الأخيرة موجة من “العصف الذهني” بين الكثير من الخبراء في مراكز التفكير والبحث حول العالم، وبدأت ثمار هذا العصف بالظهور في صورة سيناريوهات واطر قانونية تحاول رسم طريقة للتعامل من الآن مع هذا الصدام وتعقيداته وتبعاته.
بدأ العصف الذهني الخاص بهذه القضية بوضع التصورات التي يمكن ان تمضي فيها خدمة الانترنت الفضائية، وفي هذا الصدد يتصور الخبراء أن خدمات الانترنت الفضائية ستمضي قدما وفق واحد من مسارين، الأول مسار «احتكار القلة»، ويقوم هذا المسار علي الدعم المالي الذي ستقدمه حكومة الولايات المتحدة لكل من شركتي ستار لينك و كيوبر وان «Starlink و KuiperOne» وتستفيد الشركتان في أنشطتهما الدولية من البرامج التي تديرها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) لدعم إنشاء البنى التحتية للإنترنت في البلدان النامية. كما ستدعمهم الخارجية الأمريكية بمبادرة «الأقمار الصناعية على الإنترنت والأمن القومي» مع الأعضاء الأربعة الآخرين المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وبالتالي سيلتزمون بدعم أنشطة ستار لينك وكيوبر وان. وفي الوقت نفسه تنظم الصين نشر مجموعتها الضخمة من الأقمار بعد أن قامت بتأسيس شركة جديدة مملوكة للدولة باسم AliLink. وبحلول عام 2025، تستأنف الحكومة الروسية خططها لإطلاق مجموعتها العملاقة GLONASS.
أما المسار الثاني فهو مسار«المنافسة المنظمة»، وفيه تتحد شركات ستار لينك الأمريكية وويب وان الإنجليزية لإطلاق مجموعاتهما من الأقمار الصناعية لتغطي نصف الكرة الشمالي بالإضافة إلى أمريكا الجنوبية وأجزاء من إفريقيا. وتقرر الحكومة الصينية إطلاق مجموعتها، ثم تقوم بتنسيق نشاطها مع روسيا في شراكة استراتيجية، وتنتشر المجموعة لتغطي الأقمار الصناعية بمناطق آسيا، روسيا وأوروبا الشرقية وأجزاء كبيرة من أفريقيا والهند. كما يوافق المجلس الأوروبي على دعم بناء كوكبة أوروبية خلال برنامج تمويل خاص. في البداية ستقدم التحالفات الثلاث كلاً من الخدمات الأساسية لمزودي خدمة الإنترنت المحليين وخدمة المستخدم النهائي، بمتوسط رسوم 100 دولار أمريكي للمستخدمين يمكن الاتصال مباشرة، ثم تغير القواعد الجديدة لمنظمة التجارة العالمية ديناميكيات السوق، باتفاق الدول الأعضاء على أن كوكبة المشغلين ستقدم الخدمات الأساسية فقط. بحلول عام 2035، سيكون هناك 3 مجموعات في المدارات المنخفضة، وحوالي %50 من حركة مرور الإنترنت العالمي ستمر عبرهم، وسيستخدمهم حوالي ثلثي سكان العالم للوصول إلى الإنترنت.
وفي خضم العصف الذهني خلص الخبراء إلي انه أياً ما كان السيناريو الذي ستكون له الغلبة، فإن الصدام بين مبدأ سيادة الدولة وخدمات الانترنت الفضائية سيتمثل في أنه إذا كانت الدول ومع كامل سيطرتها على مشغلي خدمات الإنترنت على أراضيها، تواجه تحديات كبيرة تتعلق بعدم قدرتها على الحصول على معلومات مواطنيها التي يتم جمعها عبر الإنترنت، بل وتعجز في كثير من الأحيان عن إغلاق بعض المواقع التي ترى فيها تهديداً لسيادتها، فإن الأمر في ظل إنترنت الفضاء يكون أكثر صعوبة، فالشركات في هذه الحالة قد لا تحتاج أصلاً رخصة تشغيل من الدولة لبث خدماتها إلى المستخدمين داخلها، ويصبح بإمكان الأفراد الحصول على الإنترنت مباشرة عبر الأقمار الصناعية، من دون حاجة إلى وجود محطات أرضية تتولى عملية استقبال إشارة البث الفضائي وإعادة إرسالها أرضياً؛ وبالتالى لا تستطيع الدولة فرض سيطرتها على إنترنت الفضاء، أو حتى تنظيم عملية استقبال وإرسال البث، بل قد تفقد الدولة جزءاً كبيراً من سيطرتها على قطاع الاتصالات بصورة عامة.
انطلاقا من هذا التصور ظهرت بعض السيناريوهات التي تتعامل مع الصدام المحتمل بين الطرفين، أول سيناريو يفترض أنه يمكن وضع اطار قانوني دولي للإنترنت الفضائية، يخضع لمعاهدة المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، بما في ذلك الأقمار والأجرام السماوية الأخرى» لعام 1967 الذي صدقَت عليها 107 دول، وتوضح المادة السادسة «مسؤولية الدول عن جميع الأنشطة في الفضاء الخارجي سواء تلك التي تقوم بها وكالات حكومية أو غير حكومية».
كما يري باحثون آخرون انه يمكن الاستفادة من الدور الذي يقوم به الاتحاد الدولي للاتصالات منذ عام 1959 بتنسيق التخصيص الدولي لترددات الراديو بما فيها الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وتنسيق المواقع المدارية للأقمار، في وضع الإطار القانوني لعمل الانترنت الفضائية القائمة علي التواصل المباشرة، خاصة وأنه طبقا للإطار القانوني الحالي فإنه في كثير من الأحيان، تتقدم الدول بطلب لاستخدام التردد من قبل شركات من دول أخرى، كما حدث مع النرويج التي سجلت 4527 قمراً صناعياً عام 2015 والترددات اللازمة لها نيابة عن شركة SpaceX.. لكن من الصعب حالياً على الاتحاد الدولي للاتصالات ان يحتفظ بنفس الوظيفة، نظراً لطول وقت الإجراءات والعدد المتزايد من تطبيقات الأبراج الضخمة، ومن ثم تظهر صراعات التوزيع الحقيقية، وهنا يمكن تطوير دور الاتحاد ليتلاءم مع التحديات الجديدة.
السيناريو الثاني يري أنه يمكن تنظيم أنشطة مشغلي الأقمار الصناعية التجاريين من خلال منظمة التجارة العالمية (WTO)، باعتبار ان الاطار التنظيمي للاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (GATS) يرسي أيضًا على خدمات الاتصالات، وقد قدمت 108 دولة عضو في منظمة التجارة العالمية التزامات تتعلق بالتجارة في «نقل خدمات الاتصالات عبر الحدود». وكما ينطبق تعريف WTO الواسع لخدمات الاتصالات على اتصالات الأقمار الصناعية، فهو ينطبق أيضاً على الاقمار الجديدة في المدار الأرضي المنخفض LEO. وهذا يعني أنه سيتعين على الدول التي قدمت التزامات في هذا الشأن أن تمنح الشركات التي تدير هذه الأبراج إمكانية الوصول إلى أسواق الاتصالات الخاصة بها. ومع ظهور تكنولوجيا LEO سيكون البديل هو التفاوض على اتفاقيات جديدة في إطار GATS لتنظيم الخدمات المقدمة من خلال هذه الأبراج، مثل أن يقوم مقدمي خدمات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية بمبدأ «حيادية الشبكة»، أي أن يعامل مشغلي الشبكات جميع البيانات بدون تمييز وبغض النظر عن المحتوى وأيا كان المرسل/ المستلم. وفي إطار WTO ستكون القواعد لمقدمي خدمات الاتصالات بشأن حماية البيانات أو حيادية الشبكات متعلقة أيضًا بمجموعات LEO، مع الأخذ في الحسبان قواعد الأمن القومي.
أما السيناريو الثالث … طرحه البرلمان الاوروبي لوضع ضوابط لأمن الاتصالات الفضائي، عن طريق «برنامج» لقوانين للفترة 2023-2027. يدرُس إعادة النظر في خطط نظام الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في مدار أرضي منخفض (LEO)- -للتعامُل مع SpaceX/Starlink وOneWeb وAmazon Kuiper وTelesat وغيرها من مشغلات الإنترنت في LEO في محاولة لتقليل اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأمريكية من أجل اتصال آمن. وأشار مفوض السوق الداخلية في الاتحاد أن الأمر شديد الأهمية لسيادة الاتحاد الاستراتيجية. وبشأن نطاق بث الإشارات، صرح أن التردد معروف، وسيتم تشفير الإشارات من النظام الجديد وتوصيلها إلى أوروبا وإفريقيا لمنحها بديلاً عن البنية التحتية الصينية. كما أنه سيوفر دعمًا في حالة الهجمات الإلكترونية على شبكات النطاق العريض. وتقدر تكلفة البرنامج الإجمالية بـ 6 مليار يورو، في حين تبلغ مساهمة الاتحاد في البرنامج من 2022 حتى 2027 حوالي 2.4 مليار يورو بالأسعار الحالية، مُمَولة من القطاع العام المُتمثل في ميزانية الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء ومساهمات وكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، واستثمارات القطاع الخاص.