تقع مرحلة الثانوية العامة في فترة فارقة بحياة كل شخص، فنهاية الثانوية العامة، هي في الوقت نفسه بوابة الخروج من مرحلة الإعداد “الافقي العريض” للإنسان، وبوابة الدخول في مرحلة الإعداد “ الرأسي الضيق” المتخصص، تمهيداً للإعداد النهائي لما يفترض أنه المسار المهني طويل الاجل، وبحكم المرحلة السنية الحساسة التي تحتلها من عمر الإنسان، وهي فترة المراهقة، والمكانة التي تحتلها في رحلته التعليمية، كمفترق طرق متعدد المخارج، فهي تحتاج أكثر من المراحل التعليمية الأخرى، لأن تتوفر لها معادلة من ثلاثة أطراف، هي التعليم والتربية والتنمية.
وبالنظر إلي ما يحدث في الثانوية العامة بمعظم البلدان العربية، نجد أن هذه المعادلة تسجل 2 حالة غياب، هما التربية والتنمية، وحالة حضور واحدة هي التعليم، وتعد معادلة الرقمين 2 مقابل 1 ، أو الغياب الثنائي للتربية والتنمية، والحضور الفردي للتعليم، من أهم المعضلات التي تعاني منها الثانوية العامة العربية، إن لم تكن أعقدها وأكثرها خطورة على الإطلاق.
في المعادلة السابقة، يجسد التعليم الجانب المسئول عن وضع البذور والأسس اللازمة لبناء المهارات والقدرات الاحترافية والإبداعية المتعين توفيرها في طالب الثانوية، وهو يتهيأ لاستكمال دراسته الجامعية، بينما تجسد التربية الجهد اللازم لبناء منظومة القيم العليا، المتعين غرسها لدي الطلاب، لتكون هي الإطار الذي يضبط ويوجه طرق وآليات توظيف القدرات والمهارات التي تم بناؤها بواسطة التعليم، ليمضي الطالب بعد ذلك في سياق قيمي مجتمعي رشيد وناضج بالدرجة التي تجعله يسهم في دفع المجتمع ككل للأمام.
أما التنمية فتجسدها الجهود التي تجعل المهارات والقدرات التي بناها التعليم، ومنظومة القيم التي حققتها التربية، جزءا من الرسالة والرؤية والاستراتيجية التي يتبناها المجتمع ككل، من أجل التعامل مع موارده وتحدياته وشواغله الحالية والمقبلة، بالطريقة التي تحقق تنمية ورفاهية بشرية مستدامة، معتمدة على العقل والإبداع والمشاركة.
ناضلت معظم المجتمعات الحديثة، ولا تزال تناضل ، من أجل ضمان حضور قوي للأطراف الثلاثة في مرحلة الثانوية العامة، ونجح العديد منها في تحقيق ذلك، بينما معظم البدان الآخذة في النمو، ومنها المنطقة العربية، لا تزال غارقة في حالة الغياب الثنائي للتربية والتنمية، والحضور المتنوع القوة للتعليم.
في هذا السياق .. لو تتبعنا ـ على سبيل المثال ـ ما يحدث سنويا بالعديد من الدول العربية عند إعلان النتيجة نجد أن حديث النتيجة ينصرف بصورة شبه كلية إلي صورتها المباشرة، أي معدلات النجاح والرسوب، والدور الثاني والتوزع العام على الأقسام المختلفة، وبعض المؤشرات الخاصة بالمجاميع الكلية للطلاب، وكأن الثانوية العامة مجرد «معبر»، يدلف من خلاله بضع مئات الآلاف من الطلاب إلى الجامعة سنويا، فيما يتلاشى تقريبا الحديث عن نتيجة الثانوية العامة، باعتبارها أكبر مؤشر على قضايا التعليم الأساسي، والضوء الكاشف لأوجاعه وأسقامه، بتوزيعاتها ومستويات حدتها وأن النتيجة في نهاية المطاف، تجسيد فعلي لمزيج من العوامل النفسية والمشكلات المجتمعية، والنقائص التعليمية والتنظيمية بالثانوية العامة، التي يفترض أنها المسار التعليمي الأفضل لبناء القدرات والاستعداد للمستقبل.
إن معادلة « 2 غياب و 1 حضور» في الثانوية العامة، هي فعليا من العوامل التي تعمل مبكرا على جعل عشرات الآلاف من الطلاب العرب ، ينخرطون في تعليم جامعي، ويستنفذون حقهم وفرصهم، وبعد تخرجهم في الجامعة، يخرجون فعليا من المساهمة في الاقتصاد الوطني وعمليات التنمية، ويتضاءل دورهم في تقديم أي دعم ملموس للناتج المحلي الإجمالي، بل يتحول الكثير منهم إلي عالة وعبء على الاقتصاد وعلي المجتمع، وجهود التنمية، بصورة لا تتوافق مطلقا مع الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية السائدة على الساحة الإقليمية والدولية.
بل يمكننا القول أن العقلية الهشة لطلاب الثانوية العامة، التي جفت مواردها القيمية نتيجة غياب أو ضآلة عنصر التربية، وضاعت بوصلتها المجتمعية، نتيجة غياب أو ضآلة الربط بعمليات التنمية، تقود في نهاية المطاف إلي شخصيات ضعيفة أو ربما مكشوفة، من حيث المناعة المجتمعية والوطنية اللازمة، سواء أثناء دراستها الجامعية، أو بعد تخرجها، فتكون النتيجة أن يستقبل المجتمع عشرات الآلاف من الخريجين سنويا، اكثريتهم غير مؤهلة للتعامل مع التحديات القائمة، على الصعيد الشخصي والمجتمعي، فتدخل في طور النمطية، بما تتضمنه من ضعف في الأداء، وضيق في الأفق، وانحسار للقدرة على الإبداع والمبادرة، أو السقوط في عالم البطالة، أما أقليتهم التي حصلت على المهارات، فتدفعها أهوائها، إما نحو الانكفاء على الذات، وإعلاء المصالح الشخصية الضيقة، على حساب الحس العام والمسئولية المجتمعية والوطنية، أو الهجرة إلي الخارج عند أول فرصة.
بين ثنايا الأكثرية والأقلية، يكون هناك اعداد يسهل جرها إلي مستنقع الجريمة والمخدرات، والفكر المتطرف، وغياب النظرة القائمة على الوعي الثقافي، مما يقود إلي مزيد من الخلل الاجتماعي العام، وليس فقط التربوي أو التنموي فقط، وهنا يكون الأثر المترتب على خلل الثانوية العامة قد بلغ حده الأقصى.
من ناحية اخري، ولمزيد من التوضيح، يمكننا القول أن استمرار معادلة « غياب 2 وحضور 1» في مرحلة الثانوية العامة، يعني إصرار من مخططي نظم التعليم على الاعتماد على المادة الدراسية المستخدمة في بناء الجوانب المهارية البسيطة، وإغفال التوسع في الجانب العقلي والثقافي والادراكي، وهذا النمط من التخطيط، لا يعكس فهما صحيحا للعلاقة بين التعليم والاقتصاد والتنمية عموما، خاصة في الوقت الحالي، الذي تقوم فيه النهضة الاقتصادية والتنموية، على العقل الإبداعي الحر، المستند الي قاعدة صلبة من الانتماء الوطني، والمنظومة القيمية الاجتماعية الراسخة، لكي يؤدي واجباته بطريقة أجود وأسرع وبإشراف أقل ، بل ويقوم بأشياء أكثر مما هو مطلوب منه، معبرا عن قدرة على المبادرة، وتقبل الأفكار الجديدة، والوعي بالأساليب الأفضل لأداء العمل، مما يفتح فرص عمل أكثر ومجالات أكثر تنوعاً، تقود بدورها إلي قدرة على التقدم والرقي في مجال المهنة وفي البحث عن مهن أخرى.