الدول مرتفعة الدخل:الأقل في السقف الجمركي (23.3%) والأقل في الرسوم المطبقة (6.8%)

تُشير بيانات منظمة التجارة العالمية في الفترة بين 2005 حتى 2023، أن متوسط حدود الرسوم الجمركية المتفق عليها بين الدول ذات الدخل المرتفع في المنظمة هي 23.3% في حدّها الأقصى أما حدّها الأدنى هو صفر رسوم جمركية، وما بين الحدين تقرره تلك الدول بحسب مرونة اقتصادها ومتطلباته، وبالمقارنة فإن السقف القانوني الجمركي للدول متوسطة الدخل هو 38.7% بينما الدول منخفضة الدخل حدها الأقصى 59.9%، من ثم تكون الدول ذات الدخل المرتفع هي الأقل في السقف الجمركي لاعتبارات عديدة نوردها في هذا المقال تباعاً.
بالنظر إلى السقف الجمركي المُقرر قانوناً باتفاق الأطراف في منظمة التجارة العالمية نجد أنه تأرحج بنسب متفاوتة ولكنها بسيطة في السنوات الـ19 محل الرصد، فعلى سبيل المثال بلغ أقصى انكماش له في عام 2020 حيث سجل ما نسبته 16.9% بينما سجل في عام 2010 نسبة 18.6% وهي ثاني أقل نسبة انكماش يتم الاتفاق عليها وإقرارها، في المقابل سُجل أعلى معدّل للرسوم الجمركية في عام 2006 بواقع 26.6%، وهي النسبة ذاتها التي تم التوافق عليها في عام 2011. غير انه يتبدى من خلال البيانات انه زامن هذه السلسلة الزمنية حالة من الاستقرار سواء في الرسوم المفروضة من قبل الدول ذات الدخل المرتفع وعددهم 30 دولة بالاضافة الي الاتحاد الأوروبي، او من خلال الحدود الإلزامية التي أقرتها منظمة التجارة الدولية برضا أطرافها. كما هو موضح بالرسم البياني المرفق.
يبدو أن لتحديد حدّ أقصى للرسوم الجمركية أو ما يُطلق عليه (السقف الجمركي أو المستويات المُلزمة أو الحدود الإلزامية) والذي من شأنه منع الدول فرض أي رسوم تتجاوز نسبته، له أهمية كبيرة في استقرار الوضع الاقتصادي والتجاري العالمي فتحديد سقف للرسوم الجمركية يوفر للشركات العاملة في التجارة الدولية قدرًا كبيرًا من اليقين بشأن التكاليف المستقبلية لاستيراد وتصدير السلع، كما أنه عندما تعرف الشركات الحدود القصوى للرسوم الجمركية التي قد تواجهها في مختلف الأسواق، يصبح من الأسهل عليها اتخاذ قرارات بشأن الأسواق التي ستدخلها، ومصادر التوريد التي ستعتمد عليها، واستراتيجيات التسعير التي ستتبعها.
يُضاف إلى ذلك أن وجود سقف ملزم يمنع الدول من رفع الرسوم الجمركية بشكل مفاجئ وتعسفي لحماية صناعاتها المحلية بطرق غير عادلة، مما يضُر بالشركات الأجنبية ويقلل من المنافسة، ولعلّ أصرخ مثال على ذلك ما أعلنه الرئيس الأمريكي من زيادة للرسوم الجمركية على المنتجات الصينية بشكل متتابع لتبلغ نحو 145% في مارس 2025، متجاوزة بذلك السقف المقرر لدى منظمة التجارة العالمية المحدد بنحو 3,5%، ما أدّى إلى تخبّط شديد في التجارة الدولية لاسيما في ظل ردود أفعال مضادة اتخذتها الصين التي رفعت هى الأخرى رسومها الجمركية على الواردات الأمريكية بنسبة إلى 125%، بالاضافة الي حظر التعامل في بعض السلع الواردة من أمريكا وغيرها من التدابير الاقتصادية الانتقامية، ومن بينها اللجوء برفع دعوى قضائية من خلال آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية والتي من بينها المشاورات والتحكيم والتي تصل في بعض الأحيان للحكم بالتعويض على الطرف المتضرر.
عندما تنضم دولة إلى منظمة التجارة العالمية، فإنها تُقدم جداول التزامات تُفصل الحدود القصوى للرسوم الجمركية التي ستطبقها على مجموعة واسعة من السلع المستوردة من الدول الأعضاء الأخرى هذه الجداول تصبح جزءًا لا يتجزأ من الاتفاقيات القانونية للمنظمة، من ثم فإن الدول الأعضاء مُلزمة قانونًا بالوفاء بالتزاماتها التي وافقت عليها عند الانضمام إلى المنظمة، بما في ذلك عدم تجاوز المستويات الملزمة للرسوم.
وتشير البيانات كذلك أن مجموعة الدول ذات الدخل المرتفع قد فرضت ما متوسطه 6.8% فقط من الرسوم الجمركية على وارداتها الخارجية حتى 2023، وهو أقل بكثير من نظيرتها المطبقة في الدول ذات الدخل المتوسط والتي بلغ متوسطها 9.6%، وتقل كذلك عن تلك المفروضة في الدول ذات الدخل المنخفض والتي بلغ متوسطها 12.82%، وذلك في العقدين محل الدراسة، ويبدو أن للرسوم الجمركية مظهران أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالمظهر الإيجابي تضطلع به الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، حيث ترفع فيه نسبة الرسوم الجمركية على السلع والمنتجات الواردة من الخارج وذلك لتحقيق اغراض تدعم اقتصادها لاسيما حماية الصناعات المحلية الوليدة من المنافسة الأجنبية القوية ومنحها الوقت لتطوير قدراتها التنافسية، وتشجيع الإنتاج المحلي وحماية سوق العمل والحفاظ على معدلات التوظيف، فضلا عن كون هذه الرسوم تعد مصدرًا هامًا للإيرادات الحكومية في العديد من الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض ما يحد من العجز التجاري لها.
أما المظهر السلبي هو أن تضطلع الدول ذات الدخل المرتفع بتقليل الرسوم الجمركية على وارداتها من الخارج، وهذا ليس معناه أنها تفقد الميزات المذكورة التي تتحصل عليها الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، وإنما هي بتخفيض هذه الرسوم تحصد ميزات أخرى إضافية ومهمة لاقتصادها، لأنها تعتمد بشكل كبير على الصناعات التكنولوجية المتقدمة، والخدمات المالية، والخدمات المهنية، وغيرها من القطاعات التي لا تعتمد بشكل كبير على الحماية الجمركية، بالاضافة إلى ما تتمتع به الصناعات في الدول ذات الدخل المرتفع من قدرة تنافسية عالمية أعلى بفضل الابتكار، والتكنولوجيا المتقدمة، والبنية التحتية المتطورة، ورأس المال البشري المؤهل، وهو ما يقلل بلا شك من حاجتها إلى الحماية من خلال الرسوم الجمركية.
تجدر الإشارة إلى أن السقف الجمركي المُحدد بموجب منظمة التجارة العالمية لا يكون ملزماً للدول إلا باتفاقهم على الخضوع إليه، كما أن عدم المثول إليه وضرب الحائط به يُعد انتهاكا لأحد القواعد القانونية التي وضعتها المنظمة لخلق بيئة تجارية دولية آمنة ومستقرة، ورغم ما وضعته المنظمة من آليات لتسوية النزاعات الناشئة عن مثل تلك الأمور، إلا أنه يظل تطبيق الأحكام القضائية الصادرة عنها معلقاً على إرادة الأطراف في تنفيذه، الأمر الذي قد يقوض عمل تلك المنظمة لتدور مجددا في فلك الدولة الأقوى لا الدولة القانونية.