تظل اللغة العربية بثرائها وشجونها موضوعاً لأحاديث وخلافات شتّى. تزداد وتيرة النقاش بوجه خاص في يوميّ 18 ديسمبر الذي أعلنته منظمة اليونسكو يوماً عالمياً للغة العربية في 2012، واليوم الثاني هو اليوم العالمي للّغة الأم الذي يوافق 21 فبراير من كل عام. في هذين اليومين يتجدد الحديث عن اللّغة العربية، حديث تتزايد فيه المخاطر التي تواجهها لغة الضاد. مبعث هذه المخاطر هو ما تضمنه التقرير الصادر عن اليونسكو في 2009 “أطلس لغات العالم حول اللغات العالمية المُهددة بالاندثار”. يقسم التقرير هذه اللغات إلى 5 مستويات: لغات هشّة، ولغات معرضة للخطر، ولغات معرضة لخطر كبير، ولغات مُحتضرة، ولغات ميتة.
منذ عام 1950، ومن أصل 6000 لغة عالمية انقرضت نحو 200 لغة على مدى الأجيال الثلاثة الأخيرة، وتعتبر 573 لغة أخرى لغة محتضرة، و502 لغة معرضة لخطر شديد، و632 لغة معرض للخطر، و607 لغة هشّة بما مجموعه 2514 لغة. وهو ما يعني أن نصف لغات العالم تقريباً تبدو مهددة اليوم بالإندثار.
والواقع أن دور اللغة العربية في الحضارة الإنسانية معروف ويشهد به الأخرون قبل العرب أنفسهم إذ كانت يوماً لغة الآداب والعلوم فضلاً عن دورها في الترجمة عن اللغات الأخرى وبوجه خاص ترجمة الفلسفة اليونانية في العصر العباسي. ولعلّ اللغة العربية من اللغات الحية القليلة التي لا يقتصر النطق بها على سكان دولة أو منطقة معينة، بل هي لغة عابرة للحدود الجغرافية والقوميات والجنسيات مثلها في ذلك مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية. هذه المكانة التي تحظى بها اللغة العربية تمنحها بلغة الأرقام المرتبة الرابعة عالمياُ بحسب معيار الناطقين بها. تتفاوت التقديرات الخاصة بتصنيف لغات العالم وأعداد الناطقين بها ولا توجد إحصائيات متفق عليها عالمياً بعدد المتحدثين بلغة ما. ووفقاً لإحصائية كتاب حقائق العالم الصادر عن الاستخبارات الأمريكية، فإن اللغة العربية تحتل المركز 4 عالميا إذ يتحدث بها 480 مليوناً من البشر، معظم هؤلاء بالطبع هم سكان الوطن العربي لكن يوجد منهم ناطقون بالعربية من غير العرب بوصف العربية هي لغة القرآن الكريم، الأمر الذي هيأ لها لانتشار في مجتمعات إسلامية غير عربية. وتحتل اللغة الإنجليزية المرتبة الأولى عالمياً بعدد متحدثين يصل الى 1800 مليون متحدثاً يدخل ضمنهم المتحدثون بها كلغة ثانية، ثم اللغة الصينية (الماندرين) بجميع لهجاتها بعدد متحدثين يبلغ 1300 مليون متحدثاً. وتحِلّ اللغة الهندية ثالثاً بعدد متحدثين يصل الى 829 مليون متحدثاً. والملاحظ أن اللغتين الفرنسية والألمانية تحتلان المركزين التاسع والعاشر عالمياً بالرغم من أهميتهما ومكانتهما الكبيرة في الفكر والآداب والفلسفة.
والواقع أن التصنيف السابق إنما يستند الي معيار رقمي محض هو عدد المتحدثين باللغة، وهو أمر لا يعبر بالضرورة عن تأثير اللغة أو دورها في مجال العلم والفكر.
لو تجاوزنا موقع اللغة العربية مقارنةً بلغات العالم بحسب معيار عدد المتحدثين بها، فإن اللغة العربية في ذاتها تنطوي على درجة بالغة من الثراء. ويدور نقاش مثير بين المتخصصين وعلماء اللسانيات حول عدد مفردات اللغة العربية. وفي هذا النقاش تجدر التفرقة ابتداءً بين عدد مفردات اللغة، وعدد جذورها اللغوية، وعدد كلماتها في أكبر المعاجم والقواميس الخاصة بها.
وفقاً لأرجح التقديرات، فإن اللغة العربية تحتوي على 12 مليون و300 مفردة، وتعدُّ بذلك أكثر لغات العالم ثراءً، وتأتي اللغة الإنجليزية في المركز الثاني بعدد كلمات وقدره 600 ألف كلمة، ثم اللغة الألمانية ثالثاً بعد كلمات يبلغ 160 ألف كلمة، واللغة الفرنسية في المركز الرابع بعدد كلمات قدره 150 ألف كلمة، وتجيء اللغة الروسية خامساً بعدد كلمات يبلغ 130 ألف كلمة. لا يخلو الأمر بالطبع من جدل علمي حول مدى دقة هذه الأرقام، وما إذا كانت هذه الأرقام تقتصر على الكلمات المستخدمة بالفعل أم أنها تشمل أيضاً الكلمات المهجورة وغير المُستخدمة، فاللغة الألمانية بوجه خاص تثير جدلاً كبيراً لمعرفة عدد كلماتها، فوفقاً لبعض التقديرات توصل علماء اللغة في برلين الى أنها تشمل 3.5 مليون كلمة. ويرى الخليل بن أحمد أنه إذا كان لدينا 28 حرفاً عربياً تعامل كل حرف مع بقية الحروف الأخرى، فلابد أن يكون لدينا 120 مليون كلمة! ولكن المنطق ذاته يُمكن أن يسري على اللّغات الأخرى مثل اللّغة الإنجليزية التي تتكون من 26 حرفاً.
تختلف الأرقام السابقة اختلافاً كبيراً حين يتم إحصاء عدد كلمات اللغة العربية، وغيرها من اللغات، بحسب ما تتضمنه المعاجم والقواميس اللغوية إذ تقل عدد الكلمات بشكل ملحوظ. ففي اللغة العربية لا يتضمن قاموس “تاج العروس” أكثر من 120 ألف كلمة عربية. بينما تُفاجئنا اللغة الكورية إذ تأتي في المرتبة الأولى عالمياً بحسب عدد كلماتها المتضمنة في المعاجم اللغوية التي تصل الى مليون و100 ألف كلمة في قاموس (ووري مال صِم 2017)، وهو قاموس مفتوح على شبكة أنترنت متضمنة لهجات كوريا الجنوبية والشمالية.
أما ما تشتمل عليه اللغة العربية من جذور لغوية فيعد مظهراً اخر لثرائها مقارنةً مع لغات عالمية أكثر انتشاراً مثل اللغة الإنجليزية. والجذر اللغوي هو أصل الكلمة أي الوحدة المُعجمية للكلمة. ويوجد في اللغة العربية 80 ألف جذر لغوي تضمنها لسان العرب لابن منظور، وفي معجم التاج يوجد 12 ألف جذر لغوي. وتبلغ جذور اللغة العربية في “الثلاثي” فقط 8600 جذر لغوى. وبصرف النظر عن التفاوت بين هذه الأرقام بحسب مفهوم الجذر الذي يتم الإحصاء وفقاً له، فإن المؤكد أن عدد جذور اللغة العربية يزيد بكثير على عدد جذور أي لغة أخرى مثل اللغة الإنجليزية التي تشمل على 3000 جذر لغوي فقط.
السؤال اليوم أنه وبرغم ما تحظى به اللغة العربية من عراقة وثراء فإنها تتعرض لمخاطر شتّى حتى أصبحت تُعاني الاغتراب في ديارها وعلى يد أبنائها. أهم هذه المخاطر هو زحف اللّهجات العامية في مختلف الدول العربية على حساب اللغة الفصيحة. وظاهرة العامية اللغوية موجودة في كل اللغات لكنها كادت تتغوَل على العربية في عقر دار المجتمعات الناطقة بها حتى أصبح المواطن العربي في بلد ما يفهم بصعوبة بالغة عامية بلدان أخرى، باستثناء العامية المصرية التي ربما يفهمها الجميع لكونها العامية التي تنطق بها الأفلام السينمائية والأغنيات والمسرحيات المصرية المنتشرة في المجتمعات العربية.
تتوالى المخاطر التي تتعرض لها “العربية” بسبب تواضع برامج تعليمها في المؤسسات التعليمية، وزحف اللغة الإنجليزية التي أصبحت هي لغة تعليم الكثير من المقررات الدراسية في المدارس الخاصة والأجنبية والدولية. صحيح أن الانفتاح على اللغات الأجنبية أمر إيجابي ومطلوب في ظل الفجوة المعرفية التي تفصل العرب عن العالم المُتقدم وفي ظل حقيقة أن اللغة الإنجليزية تُعد اليوم هي لغة العلوم والتقنية بلا مُنازع حتى في مواجهة لغات عالمية أخرى مثل الفرنسية، لكن ذلك لا يُبرر أن تصبح اللغة العربية غريبة حتى في ديارها. ومن المفارقة أن مشروعاً كبيراً مثل مشروع لننهض بلغتنا الذي أطلقته مؤسسة الفكر العربي في 2012 لم يحظ حتى اليوم بما يستحقه من اهتمام ومازال المشروع حبيس الأدراج حتى اليوم.