يضخ العصر الرقمي الذي نعيشه كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة أرقاماً ضخمة أصبح من الصعب معها قراءة عدد الأصفار التي على يمين الرقم! والأرقام بحد ذاتها تبدو مثيرة لكن الأشد إثارة وربما قلقاً هو ما يكمن وراء هذه الأرقام من تساؤلات. فعلى سبيل المثال إذا كان حجم التجارة الإلكترونية قد بلغ 25.6 تريليون دولار في عام 2018 لعمليات شراء قام بها 330 مليون شخص عبر الانترنت بحسب ما تذكره مجلة Foreign Affairs في عددها الأخير مايو/يونيو 2021، فإن التساؤل هو ما إذا كان لهذا القطاع التجاري الالكتروني العملاق إطاراً قانونياً ينظمه؟
الحقيقة أنه يوجد في العديد من دول العالم تشريعات محلية تنظم (بعض) جوانب هذا الاقتصاد الرقمي، لكن مازالت هناك جوانب قانونية أخرى لم تحظ بعد بالتنظيم القانوني المنشود. صحيحٌ أن الكثير من دول العالم أصدرت تشريعات لمكافحة جرائم تقنية المعلومات في أشكالها المختلفة لكن هذا لا يمنع من أن هناك مساحة من الفراغ التشريعي على الصعيد الدولي لتنظيم جوانب قانونية أخرى تتعلق بالتعاملات العقدية الإلكترونية ومكافحة الاحتكارات وحماية الملكية الفكرية للمعلومات. ومازال المجتمع الدولي يفتقر الي اتفاقيات دولية شاملة في هذا الخصوص برغم وجود بعض المبادرات والاتفاقيات المحدودة التي لا يغني عنها ضرورة وجود إطار قانوني شامل.
ما سبق ذكره ينطبق على قطاعات أخرى بفرضها العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم. فإذا كان العالم معرضاً لأن يخسر ما قيمته 2.1 تريليون دولار إذا ما تعطلت شبكة انترنت لمدة ساعة واحدة فقط، فإن الأصداء القانونية لهذا الاحتمال المرعب، مهما كان احتمالاً واهياً وبعيداً، تطرح مجموعة تساؤلات قانونية عن فكرتي الخطأ والضرر الإلكتروني أو الرقمي، وكيف يمكن استخلاص عنصر الخطأ، وفي مواجهة من علي وجه التحديد؟ ثم كيف يمكن تقدير الضرر والتعويض المترتب عليه ولصالح من؟ والأهم كيف يمكن استخلاص صلة السببية بينهما على نحو ما توجبه المفاهيم القانونية التقليدية في النظم القانونية المحلية منذ زمن بعيد. هل مازالت هذه المفاهيم القانونية قادرة على استيعاب خصوصية الخطأ والضرر وصلة السببية بينهما فيما يتعلق بالاقتصاد الرقمي وبالأنشطة والتعاملات الرقمية على شبكة الانترنت بوجه عام؟
وجه ثالث للعصر الرقمي يطرح أرقامه وتساؤلاته في الوقت ذاته. فإذا كان عدد تنزيلات تطبيقات الهواتف المحمولة قد بلغ 218 مليار تنزيلاً في العام 2020 وحده، فإن هذه التطبيقات من جانب جمهور المستهلكين الإلكترونيين لا يخلو من تساؤلات قانونية تتعلق بالكم الفلكي من البيانات والمعلومات الشخصية التي يتم تجميعها من خلال هذه التطبيقات ويكون للشركات المالكة لها مركز قوة فعلي يتيح لها استخدام وبيع هذه البيانات والمعلومات الشخصية. ففي الأطر القانونية المحلية ثمة تنظيم قانوني تقليدي يكفل حماية البيانات والمعلومات الشخصية بحسبانها مظهراً للخصوصية، فهل يسعف هذا التنظيم القانوني في حماية البيانات الرقمية على شبكة الانترنت؟ ولعلّ تطبيق فيسبوك يواجه منذ فترة هذا السؤال القانوني العصيَ حول مدي أحقيته في استخدام (وبالتالي بيع) هذه البيانات الشخصية. وهل يمكن مقاضاة شركة فيسبوك أو غيرها من الشركات بسبب ذلك؟ في الإجابة على السؤال ثمة ما يُقال وهو كثير، وجزء منه خلافي لا يتوافر حوله إجماع قانوني، لكن مازالت الإشكالية قائمة والسؤال مطروحاً، فالعصر الرقمي اليوم يثبت أن تطوره يمضي بسرعة أكبر، بل أكبر بكثير من سرعة تطور المفاهيم القانونية. يزيد من حدة هذه الإشكالية أن وسائل الحماية القانونية التقليدية في التشريعات المحلية (مثل آليات حماية المستهلك) مازالت تحتاج لقدر كبير من التطوير والتحديث لكي تلائم وتواكب خصوصية العلاقة بين الشركة مالكة التطبيق الإلكتروني وبين المستخدم الإلكتروني، وما إذا كان يمكن اعتبار الأخير مستهلكاً بالمفهوم القانوني الدقيق.
منشأ هذه الإشكالية ومصدرها يكمن في الفارق بين السلع والخدمات التي تحمي القوانين جمهور مستهلكيها وبين البيانات والمعلومات. فالسلع والخدمات يتم استهلاكها وقابلة للنفاذ، أما البيانات والمعلومات فهي لا تنفذ ويمكن استخدامها بشكل دائم ومتكرر. الأكثر والأعقد من هذا أن السلع والخدمات غالباً ما يكون لها دولة منشأ بخلاف البيانات والمعلومات الرقمية التي تتجاوز في الغالب فكرة “دولة المنشأ”.
ما سبق الإشارة اليه لا ينفصل عن واقع أن هذا العصر الرقمي اللاهث تتضاعف فيه المعرفة بشكل يكاد يكون خارقاً. بين عامي 1930 و1970 تضاعفت المعرفة مرة واحدة خلال أربعين عاماً، ثم تضاعفت مرة أخرى من 1970 حتى 1990 أي خلال عشرين عاماً، ثم تتضاعف اليوم كل خمس سنوات، ويقال إنها ستتضاعف مستقبلاً كل عامين فقط، وربما أقل من ذلك في المستقبل؟
هذا التضخم الذي يشبه الانفجار المعرفي يدور في حديقته الخلفية صراع رقمي والكتروني بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ففي الظاهر تبدو حرية تدفق المعلومات على شبكة انترنت متاحة لجميع الدول في تنافس الكتروني معقد وربما خفي يدور بين الدول الكبرى وعلى وجه الخصوص بين أمريكا والصين. في هذا الصراع جوانب قانونية غائبة أو مغيّبة، وفيه أيضاَ جوانب اقتصادية هائلة. يكفي أن نعرف أن قطاع الرعاية الصحية لكبار السن (60+ سنة) في جوانبه الرقمية الإلكترونية يبلغ 17 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يطلق عليه الاقتصاد الفضي. هذا مجرد جانب واحد فقط من بين عشرات إن لم يكن مئات الاقتصادات الرقمية. الأمر المؤكد هو أن الدولة الأقوى والأكثر تقدماً رقمياً ستكون هي صاحبة اليد الإلكترونية الطولي في هذا السباق الاقتصادي، فماذا عن الأقل قوة وتقدماً رقمياً؟ هل يسعفهم تنظيم قانوني عابر للحدود لحماية حقوقهم ومصالحهم بشكل عادل ومنصف؟ الأمر مشكوك فيه الي حد بعيد. فلننتظر ونرى الي أين يصل بنا العصر الرقمي!