سواء تضخم او انكمش حجم المحتوى الانترنت الكاذب والمضلل، أو الذي يحض على العنف والكراهية، ويرتبط بالإرهاب والمخدرات، فإن السؤال الذي يطرح بقوة في كل الاحوال، سيكون متعلقا بطبيعة الطرف الذي يتعين أن يتحمل المسئولية القانونية والجنائية عن وجود مثل هذا المحتوي، وما يترتب عليه من تداعيات، ويتحمل كذلك مسئولية حجبه أو حذفه او استمراره حال اكتشاف وجوده، وهل هذا الطرف هو المستخدم الذي نشره، أم المنصة التي ظهر عليها، أم تتوزع المسئولية عليهما، أم يدخل معهما طرف ثالث؟.
تلك هي ببساطة أزمة المادة 230 من قانون آداب الاتصالات الأمريكي، الصادر عام 1996، والساري المفعول حتي اليوم، وهي مادة تمثل « الجوكر» أو العامل المشترك في كل ما يخص أزمة المحتوي الكاذب والمضلل والمرفوض عبر الانترنت، كما تعد في الوقت نفسه، واحدة من القضايا القليلة التي اتفق فيها الجمهوريون والديمقراطيون، حيث يطالب الطرفان بمراجعتها وتغييرها.
تنص المادة 230 على أمرين، الأول أن شركات الإنترنت، التي تستضيف محتوي أنشأه المستخدمون والجمهور، أو تلك التي توفر خدمات الانترنت للجمهور، محمية من الدعاوي القضائية التي تترتب على نشر هذا المحتوي، عبر منصاتها وخدماتها، لكن هذه الحماية غير شاملة، إذ يستثني منها بعض الأمور، كالجرائم الفيدرالية، ودعاوى الملكية الفكرية. والحالات التي تسمح فيها الشركات عن عمد للمستخدمين بنشر محتوي غير قانوني.
والأمر الثاني أنها توفر حماية شاملة للشركات، تسمح لها باختيار المحتوى الذي تحجبه أو تقيد نشرة، وباختيار الكيفية التي تنفذ بها ذلك، حيث تنص المادة على أن « هذه الحماية تشمل أي إجراء يتم اتخاذه طوعًا بحسن نية لتقييد الوصول إلى أو توفر المواد التي يعتبرها المزود أو المستخدم فاحشة أو بذيئة أو فاسقة أو قذرة أو عنيفة بشكل مفرط أو مضايقة أو مرفوضة بأي شكل آخر ، سواء كانت هذه المواد محمية دستوريًا أم لا، وحتى لو كان المنشور محميًا بالتعديل الأول ضد الرقابة الحكومية».
في ظل هذين الأمرين، أنشأت المادة 230 وضعا قانونيا، لا يمكن بموجبه مقاضاة شركات الانترنت، خاصة منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب قيامها بنشر أو حذف أو حجب أو تقييد نشر المحتوي المنشأ بمعرفة الجمهور.
مع التطورات المتسارعة وواسعة النطاق، التي شهدها الفضاء الالكتروني، منذ العام 1996 وحتي الآن، نشأت الكثير من التعقيدات والرؤي والمصالح المتعارضة حول هذه المادة، حتي تبلورت الأزمة حاليا في اتجاهين، الأول يري أن شركات الانترنت تسيء استخدام حق نشر المحتوي المنشأ بمعرفة الجمهور، دون مساءلة، فتقوم بالانحياز الي المحتوي المعبر عن مصالحها وتوجهاتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية، فتتوسع في نشره وتحابيه، وتتحيز ضد المحتوي الذي لا يتوافق مع رؤاها ومصالحها، فتقوم بالتضييق عليه، وفي الحالتين لا يمكن مساءلتها وحسابها.
والاتجاه الثاني، يري أن شركات الانترنت تسيء استخدام حقها في حذف المحتوي المنشأ بمعرفة الجمهور، خاصة المتعلق بالأخبار المضللة والمغلوطة والأكاذيب، والاشياء التي تحض على الكراهية والعنف والعنصرية والمخدات والسلاح وتجارة البشر وخلاف ذلك، ولا تقوم بحذفه، لأغراض تتصل بأرباحها الإعلانية، أو الحفاظ على جماهيريتها، وبقاء أعمالها قوية قابلة للنمو، أو لتحيزات فكرية وسياسية.
وبغض النظر عن طبيعة هذا الاتجاه او ذاك، يكاد يكون هناك اتفاق على نقطة واحدة، وهي أن الأمرين السابقين منحا الشركات دورا واسعا، يتعين ألا يكون مسموحا به، لأنه قد يصل إلي حد الوصاية على المجتمع في وقت ما، وبالتالي بات من المتعين إعادة النظر في المادة 230، وفي هذا السياق، هناك من يطالب بحذفها تماما، ونزع الحماية القانونية شبه المطلقة التي تمنحها للشركات، وهو ما يثير المخاوف من فتح الباب لموجات كبيرة من الدعاوى القضائية والتعويضات، ضد هذه الشركات، ليس داخل الولايات المتحدة فقط، وإنما خارجها أيضا، مما قد يؤدى لانهيار شامل لهذه الشركات، وما يرتبط بها من خدمات تقدمها لمليارات البشر حول العالم.
وهناك اتجاه آخر، يطالب بالبحث في قدر من التنظيم الذي يحد من الحماية، ويضمن للمجتمع حقوقه تجاه الشركات، ويسمح للشركات بمواصلة العمل والنمو، وهناك من يطالب بأن يظل الوضع كما هو عليه، ليصحح نفسه بنفسه.
توالت فصول التعامل مع أزمة المادة 230 خلال الأشهر الماضية داخل الولايات المتحدة، فدونالد ترامب وقع أمرا تنفيذيا في مايو الماضي، يطلب من لجنة الاتصالات الفيدرالية إعادة النظر في القسم 230، وإعطاء لجنة التجارة الفيدرالية مسؤولية التحقيق في شكاوى التحيز السياسي الناجم عن قرارات تعديل المحتوى من قبل شركات وسائل التواصل الاجتماعي، ودعا مرارًا وتكرارًا إلى إلغاء المادة 230.
تحرك الكونجرس واستدعي رؤساء شركات التقنية الكبرى، وعلي رأسهم مارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي لفيس بوك، وجاك دورسي الرئيس التنفيذي لشركة تويتر، وسوندر بيشاي الرئيس التنفيذي لجوجل، وجيف بيزوس الرئيس التنفيذي لأمازون، وساتيا ناديلا الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت، الذين حضروا جلسات استماع داخل الكونجرس لمرة على الأقل، خلال الأشهر الماضية ، حول قضية المحتوي المضلل والمرفوض عبر الانترنت، والأوضاع المترتبة على المادة 230.
وزارة العدل الأمريكية أعدت من جانبها مشروع قانون، استغرق عاما كاملا من المراجعة والتنقيح، وقدمته كتوصية للكونجرس في سبتمبر الماضي، لمعالجة أوضاع المادة 230، وركزت مسودة القانون على اجراء سلسلة من الإصلاحات من أجل تعزيز الشفافية والخطاب المفتوح والتأكد من أن المنصات أكثر عدلاً للجمهور عند إزالة الخطاب القانوني من خدماتها، وفي هذا السياق أكدت أن التنفيذ الحالي للمادة 230 تمكن المنصات على الإنترنت من الاختباء وراء الحصانة من الرقابة على المحتوي وحرية التعبير القانوني بسوء نية، واقترحت وزارة العدل توضيح اللغة في المادة 230 واستبدال المصطلحات الغامضة لتوجيه المنصات والمستخدمين والمحاكم بشكل أفضل.
عمدت المسودة أيضًا إلى تحفيز منصات التواصل الاجتماعي لحجب وقمع المحتوى غير المشروع عبر الإنترنت، مؤكدة أن المنصات التي تعمد إلى التماس وتسهيل النشاط الإجرامي الضار، يجب ألا تستفيد من هذه الحصانة. ولا ينبغي أن تحصل المنصات على حصانة شاملة لمواصلة استضافة محتوى إجرامي معروف على خدماتها ، على الرغم من المناشدات المتكررة من الضحايا لاتخاذ أي رد فعل.
علي الرغم مما حفلت به الساحة من آراء متعارضة، وانتقادات لاذعة، وهجمات عنيفة متبادلة، حفلت بالآراء المتعارضة، والانتقادات اللاذعة، والهجمات المتبادلة العنيفة، بين المشرعين وبعضهم البعض، وبين المشرعين والسياسيين مجتمعين ورؤساء الشركات، وبين مؤسسات المجتمع المدني والشركات، فإن المادة «230» من قانون الاتصالات التي اعتبرها الجميع «لب الأزمة» لا تزال كما هي دون تعديل، وأوضاع الشركات دون انتقاص، والانتقادات والقلق من الوضع كما هو دون تراجع أو هدوء.