المعاش التقاعدي: تناقض تام بين 100% تغطية بمناطق و100% حرمان بمناطق أخرى

توفير المعاش التقاعدي ليس مجرد التزام اقتصادي، بل ضرورة أخلاقية وحق إنساني أساسي، يعكس مدى التزام الدول بتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة لجميع مواطنيها فوق سن التقاعد وحمايتهم من الفقر في شيخوختهم، ووفقا لأحدث بيانات منظمة العمل الدولية حول معدلات الاستفادة والحرمان من المعاش التقاعدي حول العالم، فإن العالم يعيش ما يشبه حالة فصل عنصري اجتماعي، فيما يخص الشيخوخة، فهناك من تتوفر لهم الفرصة للاستفادة الكاملة بنسبة 100% من المعاش التعاقدي، وهناك من يحرمون حرمانا كاملا شاملا بنسبة 100% من ذلك، ولا يعرفون للاستفادة طريقا.
يعرض الجدول المرفق إحصاءات تتعلق بأوضاع صرف المعاشات التقاعدية لكبار السن في مختلف مناطق العالم. عبر ثلاثة محاور رئيسية: المنطقة الجغرافية، وحالة الاستفادة (مستفيد /محروم)، والمرتبة العالمية في مستوي التغطية بالمعاش التقاعدي للمسنين، وبنظرة تحليلية لهذا الجدول يتبين أن هناك أربع وضعيات للمعاش التقاعدي عالميا كالتالي:
ـــ الوضعية الأولي هي الرفاه الشامل، وتتركز بالأساس بكل من أمريكا الشمالية وغرب أوروبا، ففي غرب أوروبا هناك 24 دولة تقع في المرتبة رقم واحد، التي تصل فيها نسبة التغطية الي 100% من المستحقين، وتنخفض نسبة الحرمان الي الصفر، ما عدا دولة واحدة تقع في المرتبة التاسعة بنسبة حرمان 76%. وفي أمريكا الشمالية: تتبع نفس النمط الصارم، حيث تقع 4 دول في المرتبة 1 (تغطية شاملة)، وهذه الوضعية تعكس استقرار النظم الضريبية والقدرة العالية على جمع الاشتراكات.
ــ الوضعية الثانية تظهر في من شرق أوروبا وآسيا الوسطى، في منطقة تمثل الإرث الاشتراكي في الحقبة السوفيتية، ثم ما تبعها من تحولات بعد ذلك، حيث تقع 20 دولة من دول هذه المنطقة في المرتبة رقم واحد التي تتحقق فيها تغطية المعاش التقاعدي الي 100%، وتقع 5 دول في المرتبة الثانية بنسبة حرمان قدرها 4% فقط.
وتختلف هذه المنطقة عن غرب أوروبا في كونها تضم دول تقع في المراتب 4 و5و6 و7، بنسب حرمان تتراوح بين 23% و56%. هذا يشير إلى أن التحول الاقتصادي الرأسمالي الذي حدث ببعض هذه الدول في فترة ما بعد الحقبة السوفيتية، أدى إلى تآكل شبكات الأمان الاجتماعي، تفجرت بسببه فجوات لم تكن موجودة سابقًا.
الوضعية الثالثة تتمثل في التباين الحاد ما بين التغطية والحرمان داخل المنطقة الجغرافية الواحدة، وتظهر هذه الوضعية في كل من شرق آسيا، أمريكا اللاتينية، الشرق الأوسط، ففي أمريكا اللاتينية تنتشر الدول عبر نطاق واسع من المراتب (1، 2، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11). هذا التشتت يعكس التفاوت الهائل في الدخل ومستويات التنمية داخل القارة نفسها (مثل الفرق بين أوروغواي وهايتي). نجد 12 دولة في المرتبة 1، لكننا نجد دولًا في المرتبة 11 بنسبة حرمان تصل إلى 96%، وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: تتركز 4 دول فقط في المرتبة 1. بينما تتوزع بقية الدول في مراتب متأخرة نسبيًا (المرتبة 11 بها دولة بنسبة حرمان 92%). هذا يعكس الفجوة بين الدول النفطية الغنية والدول المستوردة للنفط أو التي تعاني من صراعات.
والوضعية الرابعة هي وضعية الحرمان شبه التام أو الهيكلي، وتظهر بالأساس في منطقة افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث يمكن ملاحظة أن القيمة الأكثر تكرارا في هذه المنطقة تقع في المراتب الدنيا، فهناك 4 دول تقع في المرتبة رقم 11 بنسبة حرمان 95%، و3 دول في المرتبة 10 بنسبة حرمان 85%، ودولتان في المرتبة 12 بنسبة حرمان 100% (صفر مستفيدين)، ويعني هذا الأمر أن الغالبية العظمى من كبار السن بهذه المنطقة محرومون من المعاش التقاعدي.
وعند النظر إلى الأرقام الخاصة بالذكور والإناث داخل الجدول، يمكننا القول إن العالم يعاني من ظاهرة تأنيث الفقر في الشيخوخة، بعبارة أخري الفقر في مرحلة الشيخوخة تعاني منه النساء أكثر من الرجال، حيث تشير الأرقام إلى أن النساء أكثر عرضة للوقوع في مراتب الحرمان المرتفعة بالعديد من مناطق العالم، ففي أمريكا اللاتينية هناك ثلاث دول تعاني فيها النساء من نسبة حرمان قدرها 96%، مقابل دولة واحدة للذكور بنسبة 90%. وفي شرق آسيا: في المرتبة 11، نسبة حرمان الإناث تصل إلى 96% (4 دول)، بينما الذكور 94% (دولة واحدة)، ويعود هذا إلى أن أنظمة المعاشات التقليدية (تعتمد على سنوات الخدمة المتصلة والأجر المدفوع. النساء عالميًا يعانين من مسارات وظيفية متقطعة بسبب رعاية الأطفال، والعمل في وظائف غير رسمية، وفجوة الأجور، مما يخرجهن من دائرة الاستحقاق أو يضعهن في فئات معاشات أقل.
تظهر الأرقام مفارقة في أفريقيا جنوب الصحراء، ففي هذه المنطقة، يبدو الحرمان شبه عام للجنسين، ولكن الأرقام تظهر قسوة خاصة على النساء. فهناك 15 دولة تقع فيها النساء في المرتبة العاشرة بنسبة حرمان 83%، مقابل 2 دولة فقط للذكور في نفس الفئة (وإن كانت بنسبة حرمان مقاربة 85%). الأمر الذي يشير إلى أن الحرمان هو “القاعدة” للنساء في عدد أكبر من الدول.
وفي مناطق القمة بدول “غرب أوروبا” و”أمريكا الشمالية”، تتطابق تقريبًا أعداد الدول ونسب الحرمان (0%) للذكور والإناث في المرتبة 1، وهذا يشير إلى أن أنظمة الحماية الاجتماعية المتقدمة تنجح في تحييد العامل عامل النوع (ذكور ـ إناث) في قضية الاستفادة من المعاش التقاعدي.
في ضوء الأرقام الواردة بالجدول، يمكن القول ايضا أنه لا يمكن فصل وضعيات المعاش التعاقدي عن السياق الاقتصادي السياسي الاجتماعي العام في كل منطقة على حدة، ففي غرب أوروبا، ترتبط النسب المرتفعة للاستفادة بالعقد الاجتماعي الديمقراطي الراسخ. الذي يجعل الحكومات ملزمة بضمان المعاشات للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والفوز في الانتخابات (قوة تصويت كبار السن)، وفي الشرق الأوسط، يعكس التذبذب في الأرقام طبيعة “الدولة الريعية”. في الدول الغنية، الدولة تمنح المعاش كنوع من توزيع الثروة. في الدول الفقيرة أو المتأثرة بالحروب، تنهار هذه الأنظمة. وهو ما يفسر وجود عدة دول في المرتبة 11 (حرمان 92%)، وفي أمريكا اللاتينية، تعكس الأرقام المتفاوتة الموجة السياسية من الإصلاحات. فالدول التي طبقت “المعاشات غير القائمة على الاشتراكات” مثل البرازيل وغيرها، نجحت في تحسين مراتبها، بينما بقيت الدول التي تعتمد على الخصخصة الصارمة تعاني من فجوات تغطية.
وفي النهاية الأرقام تدق ناقوس الخطر فبينما يضمن المواطن في الشمال العالمي شيخوخة كريمة، يواجه المواطن (وبالأخص المواطنة) في الجنوب العالمي خطر الفقر المدقع بمجرد التوقف عن العمل، لأنه بلا معاش تقاعدي وربما لم يسمع به من الأصل.