الموجة 4 من تداعيات “كورونا”

سليمان عبد المنعم

عرف العالم في المرحلة اللاحقة توّاً على جائحة كورونا أو ما يُعرف علمياً بفيروس «كوفيد 19» عدة موجات من التساؤلات.
كانت الموجة الأولى أقرب إلى التساؤلات الفلسفية والروحية الناشئة عن حالة الخوف والهلع التي ألمّت بالبشرية. لم يصدق الناس أو بالأحرى لم يستوعبوا كيف حققت البشرية كل هذه المنجزات الحضارية والعلمية والتكنولوجية ثم ها هي تقف عاجزة أمام فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة. وصاحبت هذه الموجة الأولى من التساؤلات تداول بعض الاعتقادات الدينية عن أن الأمر يبدو وكأنه عقاب إلهي لأخطاء وخطايا البشر. وسارع أتباع كل ديانة لتقديم ما لديهم من نصوص دينية تم تأويلها لإثبات هذه الاعتقادات أو تلك. وسرعات ما ظهرت مراجعات أخلاقية تدعو إلى عالم أكثر رحمة وتعاطفاً وتواضعاً وتضامناً.
وبعد أن هدأت قليلاً هذه الموجة الأولى ظهرت موجة ثانية من التساؤلات المستلهمة من نظرية المؤامرة انطلقت من تبادل الاتهامات حول الطرف المتسبب في نشر فيروس كورونا وهل هو الصين أم الولايات المتحدة الأمريكية أم القوى الغامضة الخفية التي يتصوّر البعض أنها تحكم العالم من وراء ستار. معظم خلاصات الموجة الثانية من التساؤلات يكاد يتوقف الآن عند المطالبة بلجنة تحقيق دولي مستقل يُعهد به إلى منظمة الصحة العالمية، لكن هل تقبل الصين بذلك الآن أم أن الأمر مآله الانتظار حتى تهدأ الأمور قليلاً؟
الموجة الثالثة من التساؤلات بدأت بعد أن استرد العالم هدوءه ورباطة جأشه وأخذ يفكر فيما سيكون عليه العالم بعد جائحة كوفيد 19 وما خلفته من أعداد هائلة من الوفيات والإصابات. وتبلور بسرعة ما يشبه الإجماع بأن العالم ما بعد كورونا لن يكون أبداً كما كان قبلها.
وتجلّى ذلك بالتحديد في ثلاثة جوانب أولها يتعلق بنظم ووسائل العمل عن بعد والتي فرضت نفسها بديلاً عن النظم التقليدية القائمة على الانتقال من أماكن السكن إلى أماكن العمل. من هذه التغيرات القسرية ما نجح بدرجة أو أخرى في بعض القطاعات ومنها ما لم ينجح بالدرجة المأمولة لاستمرار دوران عجلة الاقتصاد مثل سلاسل إمداد وتوزيع السلع والمنتجات نتيجة تباطؤ قطاع النقل بأنواعه المختلفة، وهو ما ظهر بوجه خاص في نقص المستلزمات الطبية من الأسواق في الفترة الأولى. الجانب الثاني يتعلق بالتعليم الذي يضم فعلياً معظم الأفراد المنتمين إلى الشريحة العمرية من 6 إلى 22 عاماً. فكل هؤلاء يرتادون المدارس والجامعات التي أغلقت أبوابها في أكثرية دول العالم.
حاولت دول كثيرة بوسائل وتقنيات مختلفة استكمال العام الدراسي 2019-2020 بنظم التعليم عن بعد وإجراء الامتحانات والتقييم السنوي للطلاب بالطرق الإلكترونية عن بعد. لكن ما زالت التساؤلات قائمة حول مدى نجاعة هذه النظم والبدائل بل وما زال التساؤل معلّقاً حول ما إذا كان العام الدراسي المقبل 2020-2021 سيحل في الخريف المقبل وقد وضعت حرب كورونا أوزارها لتعود أبواب المدارس والجامعات مفتوحةً أم أن الجائحة يمكن أن تطول لا قدّر الله لندخل مرحلة أخرى من عدم اليقين؟
الجانب الثالث المتعلق بالصحة يمثل سلاح المواجهة الأكثر حسماً الذي تنعقد عليه آمال البشر في كل مكان على سطح الأرض. في هذه الموجة الثالثة من التساؤلات تركز النقاش حول مدى الإنكشافات في قطاع الصحة، وهي انكشافات بدت مفاجئة في الدول الكبرى ذات الأنظمة الصحية المتقدمة، بل ان بعض هذه الأنظمة كان على شفير الانهيار كما حدث في إيطاليا خلال شهري فبراير ومارس الماضيين.
طرحت هذه الموجة من التساؤلات مسألة الاستثمار في القطاع الصحي، وعدد الأسرّة، وغرف العناية الفائقة، وأجهزة التنفس الاصطناعي. أما التساؤل الأكبر الذي ما زال يواجه البشرية فهو البحث عن لقاح أو دواء لفيروس كورونا. وبالرغم من أن هناك الكثير من التجارب السريرية التي يتم الإعلان عنها تباعاً فما زالت مسألة التعاون الدولي على المحك مع أن مثل هذا التعاون المنشود، لا سيّما من جانب الصين، يمكن أن يضطلع بدور بالغ الأهمية، ولربما يجعل فترات انتظار اختراع اللقاح أو الدواء أقصر، ومعاناة البشر أقل.
أما الموجة الرابعة من التساؤلات التي يثيرها فيروس كورونا فهي تتسم بدرجة أكبر من العمق والشمول، ليس فقط لأن خمسة أشهر كاملة قد انقضت منذ الإعلان عن الفيروس في 31 ديسمبر 2019 ولكن أيضاً لأن العالم قد استعاد توازنه بعد حقبة الارتباك الأول وأصبح اليوم مهيئاً لعمل جردة لحساب التداعيات والآثار. يتجلى ذلك بوضوح في نماذج أربعة تنتمي إلى اقتصاد الخدمات، وهي الخدمات المالية والمصرفية، والنقل الجوي، والتعليم، والصحة، دون أن ينفي هذا بالطبع أن هناك قطاعات أخرى جديرة بالبحث والانشغال.
في القطاع المالي العالمي تثور تساؤلات شتى بالغة الأهمية تبدأ من معرفة كيفية تأثر البورصات العالمية وانهيار أسعار الأسهم، وفقدانها لحوالي ثلث قيمتها خلال أسبوعين في ذروة اندلاع وباء كورونا، ومدى الأضرار التي لحقت بشركات التأمين وهي تمثل أحد محركات قاطرة الاقتصاد العالمي. أما تساؤلات المستقبل فتدور حول قياس حجم ما سيلحق باقتصادات الدول من تراجع أياً كان مستوى تصنيف هذه الاقتصادات، ولماذا بدا النظام المالي العالمي أكثر مرونة وقدرة على الاستمرار في تمويل الاقتصاد الحقيقي منذ بداية الأزمة وحتى الان؟ وما هو سيناريو النقاط العشر لما سيحدث حتى نهاية العام سواء في مآلاته الممكنة أم المجهولة؟
وفي قطاع التعليم يتمثل التساؤل الذي لا مفر من مواجهته في معرفة الآثار المترتبة على إغلاق المؤسسات التعليمية سواء فيما يتعلق بالطلاب أم الأساتذة، وهل ثمة تأثير لحق باقتصاديات الدول التي حدث فيها إغلاق للمدارس والجامعات؟ وفي ظل السيناريو المترتب لإعادة فتح المؤسسات التعليمية ما هي الإجراءات والتدابير الواجب اتباعها للحؤول دون حدوث أي مفاجآت أو انتكاسات في انتقال العدوى بسبب ظروف تقارب وازدحام البيئة التعلمية؟
أما في قطاع الصحة فإن التساؤلات تتوالى بداية من معرفة معدلات الضحايا من الطواقم الطبية العاملة في الخط الأول لمواجهة الوباء، إلى مدى استيعاب الأنظمة الصحية لحالات الإصابة والوسائل التي سلكتها الدول الأكثر تقدماً لزيادة قدرات المنظومات الصحية. ثمة تساؤل مهم آخر حول مدى معدل تأثير التكلفة الاقتصادية التي تحملتها الدول لمكافحة الفيروس المستجد على موازناتها المالية الحالية، وكذلك المستقبلية بحكم متطلبات التمويل والاستثمار المتوقعة والمطلوبة في القطاع الصحي من الآن فصاعداً. هذه مجرد عينة من الأفكار والتساؤلات التي يضمها هذه العدد الجديد من نشرة رقم، بعضها يحتاج إلى درجة لاحقة من التمحيص، وبعضها الآخر يمكن ويجب البناء عليه. وفي كل الأحوال فإن البشرية مدعوّة إلى شحذ قواها وأفكارها وربما أيضاً خيالها لمواجهة أكثر التهديدات البيولوجية وأشدها غموضاً في التاريخ الحديث.