يستعرض هذا التحليل ما يمكن أن نطلق عليه النظرة المتفائلة في قضية تغير المناخ ومشكلات البيئة المترتبة عليها، وذلك من خلال عرض ومناقشة سيناريوهين من السيناريوهات الستة التي وضعها صندوق النقد الدولي، السيناريو الأول مبني علي فرضية اقدام الدول والحكومات علي الإجراءات التي من شأنها الحد من زيادة درجات حرارة الأرض، لتكون الزيادة خلال الثمانين عاما المقبلة اقل من 2 درجة مئوية، والسيناريو الثاني أن تقدم الدول والحكومات أيضا علي الإجراءات التي من شأنها الوصول الي هدف الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050، وهو الحالة التي يتعادل فيها حجم الانبعاثات الضارة في الهواء المسببة لتغير المناخ، مع قدرة النظام المناخي والهوائي للأرض جنبا الي جنب مع الإجراءات البشرية الأخرى في إزالة اثار هذه الانبعاثات والعودة بالنظام المناخى لحالة الاتزان الأقرب إلي الوضع الطبيعي.
فيما يتعلق بالسيناريو الأول، يمكن القول تجاوز درجات الحرارة العالمية 2 درجة مئوية قد تؤدي إلى تغيرات جذرية في النظم البيئية، مثل ذوبان الجليد في القطبين وارتفاع مستوى البحار وتغير نمط الهطول المطري وتدهور التنوع البيولوجي. بالبقاء دون زيادة 2 درجة مئوية، يُمكن تقليل حِدّة هذه التأثيرات والحفاظ على النظم البيئية الحساسة، كما أن زيادة درجات الحرارة العالمية تسبب تغيرات في طبيعة الطقس والمناخ، مما يؤدي إلى زيادة الكوارث الطبيعية وتهديد الأمن الغذائي وارتفاع مستويات الحرارة المتطرفة.
تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن اتباع هذا السيناريو سيقلل بلا شك من التكلفة الاقتصادية أو الخسائر التي يتحملها العالم نتيجة التغّير المناخي ليفقد الدخل القومي العالمي ما متوسطه 1.17% فقط في السبعة عقود المتبقية من القرن الحالي.
يشهد عقد الأساس والذي يقع في الفترة بين 2021 حتى 2030 أقل نسبة خسائر في الدخل القومي العالمي بنسبة 0.42% فقط، بينما سيمثل العقد السادس الذي يقع في الفترة بين 2051 إلى 2060 ذروة ارتفاع تلك الخسائر لتحقق 1.40%، ثم يعود منحنى الهبوط تدريجيا في العقود الأربعة الأخيرة ليصل إلى أدنى مستوى له في العقد العاشر الأخير ويفقد الدخل القومي العالمي ما نسبته 1.23%، ليزيد حجم الخسائر 3 مرات تقريبا في نهاية فترى الرصد مقارنة بعقد الأساس.
تتنوع التكلفة الاقتصادية التي ينفقها العالم على المدى الطويل بسبب التغير المناخي إلى خسائر تتعلق باستنزاف الموارد الطبيعية وتدهور النظم البيئية، كذلك خسائر التعامل مع آثار الكوارث الطبيعية، وتأثيرات الصحة الناجمة عن التلوث بأنواعه، يُضاف إلى ذلك خسائر تباطؤ ولجم النمو الاقتصادي العالمي المستدام.
وعلى مستوى المناطق الجغرافية ستتباين الخسائر الاقتصادية بين منطقة وأخرى بقدر مدى التزامها بمسار وسياسات الحد من زيادة درجات الحرارة لأقل من 2 درجة مئوية في المستقبل، فستكون منطقتي شرق اوروبا وشمال اوروبا هما الأقل ضرراً مقارنة بباقي المناطق الجغرافية الأخرى، حيث ستفقد الأولى ما متوسطه 0.21% فقط من دخلها القومي بينما ستفقد الأخرى ما نسبته 0.26% من دخلها القومي. في المقابل ستفقد منطقة جنوب آسيا 1.92% من دخلها القومي بنهاية فترة الرصد وهو ما يمثل أعلى نسبة خسارة على مستوى المناطق الجغرافية، سيليها مباشرة منطقة جنوب شرق آسيا والتي ستفقد 1.43% من دخلها القومي وفقاً لهذا السيناريو، ستتقفد كذلك 5 مناطق جغرافية أخرى أكثر من 1% من دخلها القومي وهم؛ منطقة شرق آسيا، أمريكا اللاتينية والكاريبي، شمال افريقيا، افريقيا جنوب الصحراء، غرب اسيا. بينما المناطق الجغرافية الأربعة الأخيرة ستفقد أقل من 1% من دخلها القومي الإجمالي وهم؛ أمريكا الشمالية، جنوب افريقيا، جنوب أوروبا، غرب أوروبا.
إذا كان الحفاظ على زيادة درجة الحرارة لأقل من 2 درجة مئوية سيناريو مُتفائل رغم الخسائر الذي سيحققه للاقتصاد العالمي، إلا ان هناك مساراً أكثر تفاؤلاً ستتضاءل بمناسبته هذه الخسائر لأدنى مستوياتها غير أنه يحتاج التزام وتعاون دولي أكثر صرامة وحصافة وحرص وهو سيناريو صافي الانبعاثات الصفرية 2050.
أما السيناريو الثاني وهو الالتزام بصافي الانبعاثات الصفرية 2050، فيقتضي العمل على مجموعة واسعة من الإجراءات والتدابير قطعت الدول وعودا على نفسها الالتزام بها، مثل زيادة استخدام مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والرياح، وتعزيز كفاءة استخدام وتطوير تكنولوجيا الطاقة النظيفة كالهيدروجين الأخضر، والاستثمار في البحث والتطوير لتطوير تقنيات إزالة الانبعاثات الضارة، مثل التخزين الجيولوجي لثاني أكسيد الكربون، وغيرها من التدابير التي تقلص بها الدول الخسائر الاقتصادية العالمية لما متوسطه 0.76% من الدخل القومي الإجمالي في فترة الرصد بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.
وفقا لهذا السيناريو فلن تتجاوز خسائر الدخل القومي العالمي في كل عقد من العقود السبعة محل الرصد 1% باستثناء العقد الخامس فقط الذي سيفقد العالم فيه ما متوسطه 1.01% من الدخل القومي. أما العقود الستة الأخرى ستتراوح الخسائر فيه بين 0.42% في عقد الأساس وهو العقد الثالث و0.965 في العقد السادس، لتبدأ الخسائر في الإنكماش تدريجياً في العقود اللاحقة لتسجل 0.84% في العقد السابع، و0.73% في العقد الثامن، و0.63% في العقد التاسع، ثم تصل خسائر الدخل القومي لأدنى مستوياتها في العقد العشر والأخير ليسجل 0.59% فقط.
وكما هو الحال في المسار الأول ستكون منطقة شرق أوروبا ومنطقة شمال أوروبا هما الأقل تضرراً بنسب ضئيلة من الخسائر ستبلغ مع نهاية فترة الرصد 0.13% و0.17 فقط من دخلهما القومي الإجمالي. في المقابل ستكون منطقتي جنوب شرق اسيا وجنوب اسيا هما الأكثر تضرراً بفقدانهما ما متوسطه 0.93%، و1.275 من دخلهما القومي على التوالي. أما المناطق الجغرافية الأخرى التي ستشهد أعلى خسائر في دخلها القومي مع نهاية العقد الأخير هم؛ منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا بما متوسطه 0.89% لكل منهما، ثم منطقة افريقيا جنوب الصحراء التي ستفقد 0.88% من دخلها القومي، وأخيراً منطقتيشرق آسيا وأمريكا اللاتينية والكاريبي بما نسبته0.78% و0.70% على التوالي. بينما باقي المناطق الجغرافية ستتراوح نسبة الفقد فيها بين 0.31% في منطقة غرب اوروبا و0.60% في منطقة جنوب أفريقيا.
تشير البيانات إذن أن سيناريو صافي انبعاثات الصفرية الذي يعتمد على تقليل الانبعاثات الضارة بالبيئة إلى الحد الأدنى الممكن، ومن ثم التوازن بين هذه الانبعاثات والقدرة على إزالتها أو تعويضها، يعتبر أكثر أهمية من السيناريو الآخر وهو بقاء زيادة درجة الحرارة عند 2 درجة مئوية بحد أقصى لما يستتبعه ذلك من الوصول إلى أقل خسائر ممكنة في الاقتصاد العالمي.