ثورة المعلومات والتواصل بين الدولة والمواطن في صناعة وتنفيذ القانون

جمال محمدغيطاس

من سمات أى مجتمع إنساني عصرى أنه يضم ثلاثة أطراف: دول تحكم وتدير، ومواطنون يشكلون قوام المجتمع الذى تديره الدولة، وأدوات وقنوات يتواصل ويتفاعل الطرفان من خلالها، وتعد صناعة القانون من الصناعات العابرة لمثلث “الدولة ــ المواطن ــ أدوات التواصل”، فالقوانين تصنع من قبل الدولة، وتطبق على المواطن، ويجرى التفكير فيها وصناعتها وتفعيلها عبر قنوات وأدوات تفاعل وتواصل تربط بين الطرفين، وبفعل ثورة المعلومات والاتصالات تغيرت كثير من المفاهيم والمنهجيات التى تحكم عمل الدولة، والكثير من القناعات والأفكار والتوجهات التى تسود المجتمع ومؤسساته ووحداته وتسكن عقول أفراده، والكثير من الأدوات والطرق التى يتلاقى ويتواصل من خلالها الطرفان، وأدى ذلك إلى تغيير البيئة أو الإطار العام الذى يتم من خلاله “تصنيع” القوانين والتشريعات، وتتناول هذه الورقة بالرصد والتحليل تأثير ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على الأضلاع الثلاثة لهذا المثلث، والتركيز بشكل خاص وأساسى على التغيير الذى احدثته هذه الثورة فيما يتعلق بالتواصل بالدولة والمواطن في صناعة وتنفيذ القانون.

وعند النظر إلى قضية “التواصل بين الدولة والمواطن في صناعة وتنفيذ القانون” نجد أننا أمام عنوان يتضمن مثلث يتعين النظر إليه من أربع زوايا وليس ثلاث كما هو متوقع، فالقضية تضم كل من ” الدولة ــ المواطن ــ أدوات التواصل” وهذه زوايا المثلث، لكن لابد أن يضاف إليها زاوية رابعة للرؤية والمقاربة، وهى “ثورة المعلومات” التى ينسحب تأثيرها على المثلث بالجملة، مع قدر واضح من الخصوصية والتنوع في التأثير التى أحدثته وتحدثه وستحدثه في كل زاوية ، وانطلاقا من ذلك فإن منهجية معالجة هذه القضية تتطلب الإشارة أولا  ثورة المعلومات، ثم ما أحدثته من تغييرات في كل من الدولة والمواطن وأدوات التواصل من منظور صناعة القانون.

حول ثورة المعلومات

قائمة المحتويات

ليست ثورة المعلومات وليدة اليوم، فقد تطورت أدوات توليد ونقل وتوزيع وتخزين وتداول وتوظيف المعلومات عبر الزمن وانتقلت من مرحلة التداول عبر اللغة المنطوقة فى عصور ما قبل التاريخ وما بعدها ، إلى الكتابة على الورق والرقائق والاحجار والجدران في فترة ما بعد الميلاد، ثم إلى الطباعة ودخول الاتصالات على خط نقل المعلومات في العصر الحديث، ثم ظهور الحاسبات والتكنولوجيات المتخصصة فى التعامل مع المعلومات بدءا من النصف الثانى للقرن العشرين، وانتهاء بثورة المعلومات التى نعيشها اليوم وباتت تشكل بأدواتها وقدراتها بيئة معلومات مغايرة تماما لما مضى.

وبالنظر لما يجرى حاليا .. يمكن القول أن المفتاح الأساسى لفهم ثورة المعلومات يتمثل في كلمة واحدة هي “convergence ” وهى لفظة انجليزية معناه القاموسى (الالتقاء أو الميل للتجمع في نقطة واحدة)، وشاع استخدامها في العربية على انها ” تمازج أو تلاحم” بين الأشياء، وعلي المستوي التكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلومات تعني إلغاء المعايير والبروتوكولات الفنية والنظم والبرمجيات والأجهزة التى كانت سائدة في مجال شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية وشبكات المعلومات وشبكات البث الإذاعي المسموع والمرئي والأنظمة الالكترونية المختلفة،  ويعمل كل منها بصورة مستقلة عن الآخر، واستبدالها بأخرى مفتوحة على بعضها البعض، تذوب فيها قواعد البيانات وشبكات المعلومات والحاسبات الشخصية مع التليفونات العادية والمحمولة وأجهزة الراديو والتليفزيون والفيديو  والأنظمة الالكترونية في كيان واحد متمازج المكونات، يفتح المجال لسلسلة لا تنتهي من الأدوات والأجهزة الجديدة التي يمكنها تبادل المعلومات بجميع أشكالها المسموعة والمرئية والمكتوبة وأيضا المعلومات المسجلة علي شكل رسوم وخرائط وبيانات بسرعة وسهولة وبتكلفة رخيصة طوال الوقت بلا انقطاع، ويعمل هذا الكيان كنظام أو كبنية كونية لإنتاج وتداول المعلومات ، تطرح نفسها كنهر عظيم الاتساع سريع الجريان، في متناول أي شخص في أي مكان وفي أي وقت، وتتدفق فيه المعلومات بين أي نقطتين علي الكرة الأرضية بمنتهى السهولة والسرعة وعبر عدد غير محدود من الأجهزة.

وتتنوع المعلومات التي يحملها هذا النهر من مجرد إجراء الاتصال العادي الصوتي مع أي شخص علي وجه الكرة الأرضية بسعر رخيص وسهولة شديدة، إلى اكثر عمليات التجارة والبيزنس الإلكتروني تعقيدا علي مستوي الأفراد والشركات بل والدول، إضافة للعديد من الخدمات التي لن تنتهي وتشمل خدمات صحية وتعليمية وثقافية وتدريبية واقتصادية وقانونية وسياسية وسياحية وإعلامية وغيرها.

تحت ظلال هذا التمازج أصبح الإنسان يعيش حياة تقوم على تبادل المعلومات بسرعة وبكميات ضخمة وبشكل مستمر بين كل شىء، الناس وبعضهم البعض، والآلات وبعضها البعض، والناس والآلات وبعضهم البعض، فهناك الآن بيوت تتحدث للحاسبات ومجلات تتحدث للتليفونات اللاسلكية وسيارات تتحدث للإنترنت، وثلاجة تطلب الخضر ومواد البقالة من السوبر ماركت دون انتظار أمر صاحبها، إلى غير ذلك من الأشياء التى أفرزت أنماطا جديدة من الحياة، وأشكالا جديدة للعمل وأجيالا متنوعة من الخدمات، وأيضا ممارسات وظواهر سياسية وقانونية وأساليب فى الحكم لم تكن مألوفة من قبل.

وقد أدت هذه التطورات مجتمعة إلى حدوث انفجار واسع النطاق فى كم ونوع المعلومات التى يجرى تولديها وتداولها ونقلها وتوظيفها بلا انقطاع على مدار الساعة، وهى معلومات ما تلبث أن تتكامل بشكل حيوى متصل فى الحياة اليومية للفرد والمجموعة والمؤسسة والمجتمع ككل، مما ضاعف من تأثير المعلومات على حياة الإنسان فى شتى تفاصيل حياته زمنيا على مدار اللحظة، وفى البيئة المحيطة به بجميع مجالاتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا وعسكريا وعمليا وأمنيا وقانونيا أيضا، بعبارة أخرى أصبحت المعلومات عاملا جوهريا وحيويا فى وجود الإنسان وما ينشئه من كيانات وجماعات وتكتلات على أى مستوى، وما يصدره من تنظيمات وتشريعات.

الزاوية الأولى:  مواطن بقناعات جديدة

كان من الطبيعى بل والحتمى أن تحدث ثورة المعلومات تغييرا جذريا وجوهريا بالقناعات والأفكار والرؤى والآمال والطموحات التى يعتنقها ويمارسها  المواطن في العصر الحالى، وتجعل منه مواطنا  له تأثير مختلف على مجمل ما يجرى بمجتمعه ودولته من أحداث وتوجهات من بينها بالطبع ما يصدر من تشريعات وقوانين، بعبارة أخرى أصبحت صناعة القانون إزاء مواطن له ذهنية جديدة متأثرة إلى حد بعيد بثورة المعلومات وما ترتب عليها من ثورة في أدوات التواصل اللحظى.

أول ما يتعين رصده في هذا السياق أنه مع التباشير الأولى للقرن الجديد كانت ثورة المعلومات وظاهرة التواصل اللحظى قد جعلت عملية إنتاج وتداول وتوزيع وتوظيف المعلومات تنتقل من مراكز اتخاذ القرار العليا للمجتمع لتقف على الأرصفة والميادين والمقاهى والنوادى والشواطىء والأرائك فى غرف الاستقبال بالمنازل، فبدأت أنشطة “الويكى” ــ  القائمة على التعاون والعمل المشترك والبناء من أسفل ــ تنتقل من الإنترنت إلى العالم الواقعى لتمكن المواطن الفرد من أن ينخرط بسهولة فى سلسلة أفقية من أقرانه من المواطنين تمتمد كالخط المستقيم، وليس الهرم الذى ذى القاعدة العريضة والقمة المدببة التى تتسع لفرد واحد، وفى هذه السلسلة يتساوى الجميع، ويتشابكون بصورة ليس فيها طبقة فوق أخرى، بل ينتظمون جنبا إلى جنب فى امتداد لا نهائى من الافراد والأشياء التى تتعاون وتتناغم معا لتصل إلى فعل مشترك، عبر الأداء السريع الذى يعمل فيه الجميع بندية واحترام، ويتعارفون ويتشاركون ويمتلكون حرية مطلقة فى التعبير، ويمتلكون فيه وسائل سريعة لقياس الآراء وصنع القرارات بصورة تشاركية كاملة.

أنتجت أنشطة الويكى جيلا من المواطنين ذو ذهنية فكرية ونفسية وسلوكية جديدة، لها تأثيراتها القوية على علاقتهم بالمجتمع والدولة وكل ما يصدر عنها من قرارات وتسنه من تشريعات وقوانين، وقد تبلورت القيم الأساسية لبيئة الويكى والتفاعل اللحظى فيما في مجموعة من النقاط من بينها:

ـ إيمان شبه مطلق بأهمية ألا يكون هناك أية قيود على حرية التعبير.

ـ لا شروط للانضمام لأى نشاط أو مجموعة أو تنظيم أو صفحة أو مغادرتها والانفصال عنها.

ـ لا قيود أو شروط على مستوى ونوعية حجم المشاركة.

ـ اعتماد تام على آليات التواصل اللحظى الجماعى ـ كاستطلاعات الرأى الالكترونية والتصويت الفورى ـ لاعتماد أى قرارات أو خطوات فى أى قضية فى أى وقت وبمنتهى السرعة بمشاركة الجميع.

ـ قناعة راسخة بحتمية وجود مساواة فى الحقوق والواجبات وتوزيع الأدوار بالنسبة للجميع، بدءا من مجرد التعبير عن الرأى وانتهاء باتخاذ المواقف والقرارات

ـ اعتماد مطلق على التنظيم الشبكى الأفقى الذى يوفر شعورا بالندية والمساواة والاحترام بين كل الأعضاء المشاركين، سواء أمام الدولة أو اى تنظيم أو مؤسسة بالمجتمع.

ـ الحرية الكاملة فى كشف أو إخفاء شخصية العضو أو المشارك في بيئة التواصل اللحظى القائم على الويكى، سواء بصورة كلية أو جزئية، دون أن يرتب ذلك أى نوع من التأثير على احترام او فعالية العضو.

ـ تقدير واحترام كامل لأى مساهمة أو أى جهد مهما صغر أو كبر ، متتاليا أو متقطعا.

ـ إعلاء الفكرة والقيمة والإبداع وروح الجماعة على الأشخاص، حتى لو كانوا منشئوا المجموعة أو النشاط ومنظميه ـ لأنهم فى النهاية أفراد متساوون مع الآخرين، ومن ثم فالغالبية الساحقة من الأعضاء فى كل التنظيمات تتحرك أفقيا معا ويغيب عنها القائد أو الزعيم.

عكست هذه المجموعة من القيم نفسها في مجموعة أخرى من السمات الفكرية والنفسية والسلوكية التى أنتشرت بين ملايين من المواطنين من مختلف الأعمار حول العالم، وأصبحت من الركائز الاساسية في تعاملهم مع المجتمع والدولة من حولهم، خاصة فيما يصدر عن الدولة من قرارات وتشريعات، ووفقا لهذه السمات فإن قطاع المواطنين المنخرط في بيئة التواصل اللحظى وأنشطة الويكى بات يتصف بعدة سمات منها أنه :

ـ مؤمن بالحرية ويمارس الانفتاح والعطاء مع الآخرين.

ـ يمتلك ذهنا مبدعا لا تابعا.

ـ يقبل بالمخاطرة ويستطيع المثابرة.

ـ يسعي لتحقيق قيمة مضافة حقيقة.

ـ يفضل التعامل بندية واستقلال مع الآخرين.

ـ يحرص على الفعل والإضافة ويرفض الانصياع والملاحقة

ـ ينطلق من الانتصار للذات والثقة بالنفس.

ـ يمتلك ثقافة المقاومة الايجابية لا الاستسلام أمام عقل الآخرين.

وحينما نضع قيم بيئة التواصل اللحظى مع السمات التى أضفتها على المواطنين المنخرطين فيها نخلص إلى أن صناعة القانون باتت تواجه مواطنا ومجتمعا مختلفا يفرض عليها تحديات جديدة، لعل أهمها أن صناعة القانون لم تعد لها الحرية السابقة فى أن تتبختر وهى تمضى فوق مجتمع اشبه بالسهل المنبسط، فتخرج منتجاتها بطريقة فوقية، وهى مطمئنة أنها منتجات ستنزل منزل السمع والطاعة، فهذه البيئة أخذة فى التعير السريع والعميق، فالسهل المنبسط يتحول بسرعة مخيفة إلى أحراش مليئة بالهضاب والمنخفضات التى لا سبيل سوى فهمها والتواصل معها بأساليبها الجديدة.

الزاوية الثانية: تغيير في نهج الدولة

هل توقف تأثير ثورة المعلومات عند المواطن والمجتمع ولم يصل إلى الدولة التى تعد أحد زوايا صناعة القانون؟

بالطبع لا، فالحديث الآن على قدم وساق عن دول وحكومات استجابات ولا تزال تستجيب لهذه التغييرات الكبرى، وانسحبت هذه الاستجابة أولا على نهجها العام كدولة وهى ترسم علاقتها مع مجتمعها ومواطنيها وكيفية تواصلها معهم، وثانيا على أسلوبها في صناعة القوانين وانتقالها إلى أسلوب مختلف في صناعة القوانين والتشريعات وإصدارها ثم متابعة تنفيذها ورصد آثارها.

فعلى صعيد النهج العام أحدثت ثورة المعلومات وثورة التواصل نوعا من الفرز بين سمات الدولة في فترة ما قبل هاتان الثورتان، وسمات الدولة التى استجابت وتحرص على استيعاب ما جرى ويجرى وسيجرى مستقبلا، فالدولة الأولى من سماتها أنها:

ـ سلطوية هرمية البناء التى تتبع أسلوب إصدار التعليمات وتقديم الإرشادات الواجبة التنفيذ، ويخضع فيها المستوى الأدنى للمستوى الأعلى والتلقى منه بلا مناقشة.

ـ تجعل من نفسها القلب أو المركز الذى يدور حوله ويستجيب له ويخضع له كل ما سواه، وتركز على تحقيق ما تراه أو تضعه هى وإداراتها وهيئاتها من أهداف، بينما الشعب والمواطنين وأصحاب المصلحة والجمعيات والمؤسسات على الهامش ويسودهم شعور بأن آرائهم لا يتم تقديرها والاعتداد بها.

ـ تركز على الخطط والاستراتيجيات التى توضع لتخفيف الأعباء عن نفسها.

ـ تتغلب لديها ثقافة اعتقال المعلومات وحجبها على ثقافة حرية المعلومات والإفصاح عنها.

ـ مستوى تفاعلها مع المواطنين وأصحاب المصلحة الآخرين منخفض ويركز على التعامل مع الحدث بعد وقوعه كرد فعل، وتعاملاتها المباشرة مع المتعاملين معقدة بشدة وتفتقد التنسيق.

ـ ترى مصدر القوة هو اللجوء إلى فرض الاستقرار من خلال جعل الهياكل والطرق التقليدية هى الأساس لمختلف العمليات والثقافات السائدة فى العمل، ولذلك فإنه عند حدوث تغيير على نطاق واسع أو المطالبة به يبدو ذلك فى نظرها وكأنه انقلاب شامل.

ـ تبدو كالقلعة المغلقة على أصحابها ونظمها، حيث يتم بداخلها فقط التعرف على ما يجب ان تقوم به وكيفية القيام بذلك ومن ثم تقديمه بشكل مستقل.

ـ تسودها علاقات غير متكاملة وتتم على أساس بيروقراطى بين الإدارات والمستويات المختلفة بداخلها.

ـ تميل إلى رفض التحديث والتعديل وتتهرب من المسئولية ويكون لمبدأ كبش الفداء تأثير قوى وفعال فى بيئة العمل، كما تتسمك بأساليب العمل القديمة، وهذه السمات تجعلها دولة لا تقبل سوى بنموذج “الدولة محور المعلومات”.

أما الدولة التى بدأت الاستجابة لثورة المعلومات وثورة التواصل الإنسانى اللحظى خاصة فيما يتعلق بصناعة القانون فمن سماتها أنها:

ـ تعاونية شبكية البناء وتعتبر أن مهمتها الأولى تقديم الخدمات ويقوم عملها على التعاون فى العمل بين جميع النظم القائمة ومشاركة الخبراء من الخارج.

ـ تركز على تحقيق الأهداف المتعلقة بأصحاب المصلحة من الجمهور بالإضافة لتحسين عملية تقديم الخدمات

ـ ذات تفاعل عال مع مواطنيها وتهتم برصد ردود أفعالهم وتركز على أهدافهم ومتطلباتهم وتتعامل مع الأحداث قبل وقوعها بشكل يشجع على المشاركة النشطة والتواصل الفعال.

ـ “منصتة” تجيد الاستماع لمواطنيها وتعتبرهم الأساس وتركز على إرضائهم، وتسمح لهم بإدارة علاقتهم مع الحكومة بندية وعدل.

ـ توازن بين الحق فى حرية المعلومات وتداولها ومقتضيات أمن وحماية البيانات والمعلومات وصيانتها.

ـ يقوم التواصل بين وحداتها على نموذج اتصالات متكامل يستند إلى قيم وأخلاقيات المشاركة والتعاون فى العمل والمبادرة

ـ تتعامل مع الحدث قبل وقوعه وتبحث عن ابتكار طرق جديدة لأداء الأعمال وتقديم الخدمات بشكل أفضل وتبادر بإحداث التغيير واستيعابه بدلا من انتظار حدوثه ثم الاستجابة له.

ـ ترى أن مصدر القوة هو امتلاك طرق وأساليب عمل وبنية تنظيمية تتسم بالمرونة وسرعة الاستجابة، وشكل مؤسسى يسمح بالتكيف مع التغييرات الشاملة والرئيسية واستيعابها بسهولة وبأقل قدر من تعطيل سير العمل.

ـ مفتوحة وقائمة على التعددية والتنوع وتعتمد على الآخرين كى يقدموا العون فى عملية تقديم الخدمات.

ـ تعتمد على رأس المال الفكرى وعلى خبرة الموظفين وعلى أساليب عمل مرنة كنظام العمل عن بعد.

ـ تقبل بفكرة المخاطرة، وتدعم تحمل المسئولية والعمل وفقا لأساليب بتقديم المكافآت والحوافز للموظفين وتطبق أساليب عمل جديدة ومبتكرة تتيح التعامل مع المخاطر بشكل فعال، وهذه هى ملامح الدولة القادرة على تبنى وتفعيل نموذج “المواطن محور المعلومات”.

الزاوية الثالثة :ثورة التواصل

سبقت الإشارة إلى أن أدوات التواصل والتفاعل بين الدولة والمواطن واحدة من زوايا المثلث الذى تقطعه أو تعبره صناعة القانون وإصدار التشريعات، باعتبار أن القوانين تصنع من قبل الدولة، وتطبق على المواطن، ويجرى التفكير فيها وصناعتها وتفعيلها عبر قنوات وأدوات تفاعل وتواصل تربط بين الطرفين، وقد رأينا كيف أن كل من المواطن والدولة حدث به تغيير جذرى بفعل ثورة المعلومات .. وفى ضوء ذلك يصبح السؤال الآن ما هو شكل التغيير الذى أحدثته ثورة المعلومات في أدوات وطرق التواصل بين المواطن والدولة رقميا وأصبح له تأثير على صناعة القانون؟

عمليا .. تشكل الإنترنت أكبر وسيط للتواصل الرقمى، وما عداها يمثل شذرات بسيطة إما فى طريقها للاضمحلال والانزواء لكونها ظهرت قبل الإنترنت أو تنافست معها وخسرت المعركة، أو كونها وسائل جديدة تعيش على التوازى مع الشبكة ولا تزال فى أطوارها الأولى، ولذلك سنركز على رحلة تطور التواصل الإنسانى الرقمى عبر الإنترنت ، كمثال جيد وأكثر تعبيرا من غيره عن نشأة الظاهرة وتطورها.

تعود جذور التواصل الإنسانى الرقمى عبر الإنترنت إلى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، حينما نجحت بعض الأدوات والتكنولوجيات المختلفة على الشبكة فى أن تتجاوز الشكل المحدود لتبادل البيانات داخل شبكات المعلومات، الذى يتم بين طرفين أو عدة أطراف تعمل وفق إطار مؤسسى داخل منشاة أو هيئة أو أكثر ومغلق على أصحابه ومستخدميه ويحدد لكل منهم صلاحيات بعينها، ثم راحت هذه الأدوات تنشئ قنوات لتبادل معلومات وأفكار وآراء بين أطراف لا يحكمها إطار مؤسسى وليس بينها من علاقة سوى الاستخدام المشترك للشبكة ومواردها المفتوحة للجميع.

استمر التطور وبدأت تظهر أشكال من التواصل الإنسانى تشمل تبادل المعلومات والرأى والنقاشات على فترات متباعدة زمنيا، بمعنى أن الأدوات والتكنولوجيات المستخدمة كانت ــ على سبيل المثال ــ تجعل من المحتم على من يطرح رأيا أو يبعث بمعلومة أو مشاركة فى قضية ما يحتدم حولها الجدل أن ينتظر لفترة ربما تطول لساعات أو أيام حتى يتعرف على ردود وملاحظات واتجاهات الآخرين حيال ما يطرحه، وبالتالى كان التواصل فى مجمله يجرى ببطء وبصعوبة واضحة، وبالتزامن مع ذلك كان موضوع التواصل الإنسانى ذا طابع علمى تقنى متخصص كاد أن يكون مغلقا على قضايا المعلوماتية بأفرعها المختلفة.

بمرور الوقت بدأت هذه الأدوات والتكنولوجيات تتطور وتتسع، فمن الناحية الأدائية بدأت تنتقل من الأدوات التى تحقق تواصلا بطيئا إلى الأدوات التى تحقق تواصلا سريعا وصل الآن إلى ذروته بحدوث التواصل اللحظى أو الفورى، كما أصبحت تتسم بمزيد من السهولة فى الاستخدام ورخص التكلفة، حتى بات باستطاعة أى شخص استخدامها بمجرد اكتساب بعض المهارات البسيطة التى يمكنه الحصول عليها بالتدريب والتعلم الذاتى، ومن ناحية الانتشار والجماهيرية انفتحت على مجالات جديدة وانتقلت من التخصصية إلى العموم، ومن دائرة المعلوماتية المنغلقة على أصحابها والمهتمين بها إلى رحابة عالم السياسة والأدب والثقافة والفن والاجتماع والترفيه والعقيدة وغيرها.

  أدى ذلك كله إلى تحفيز أعداد هائلة من البشر حول العالم للدخول فى مجال التواصل الإنسانى عبر الإنترنت وفضائها الإلكترونى، وبالطبع فإن الزيادة الرهيبة فى أعداد المستخدمين كانت تعنى فى الوقت نفسه تنوعا وانفتاحا واسعا فى الاهتمامات والقضايا المطروحة للنقاش من قبل المشاركين الذين باتوا يعبرون بصورة متزايدة عن المجتمع الإنسانى بكل فئاته وتنويعاته، ومن ثم دخلت قضايا السياسة والاجتماع والثقافة والقانون والشئون الدولية على الخط واحتلت الواجهة، هذا علاوة على أن نجاح التكنولوجيا فى توفير أدوات التبادل الفورى للمعلومات والآراء وإجراء النقاشات الحية حفز المزيد من الناس على المشاركة ورفع عنهم إحساسهم بالملل والنفور الذى كان سائدا فى المرحلة الأولى.

وإذا ما أردنا إيجاز المراحل التى مرت بها رحلة التواصل الإنسانى الرقمى عبر الإنترنت سنجد أنها مرت بثلاث مراحل متمايزة، لكن لا توجد بينها فواصل حادة وحاسمة، بل هناك حالة من التعايش والتداخل بين هذه المراحل جميعا التى لكل منها وجود بدرجة أو بأخرى مع الآخرين، لأن الحديث منها لم يطرد القديم ويقوم بتهجيره قسرا وفجأة إلى متحف التاريخ مقتلعا كل جذوره ومظاهر وجوده، بل جاء الجديد على مهل وبدأ ينحت لنفسه موطئ قدم على الساحة دون أن يكون ذلك بالضرورة خصما مما يملكه القديم، وعلى أية حال يمكن عرض المراحل الثلاث كالتالى:

ــ مرحلة الإرهاصات الأولى : “الحوار البطىء غير اللحظى”، وكان بطلها نظام لوحات النشرات الإلكترونية أو “Bulletin board system”، الذى بدأ فى الظهور لأول مرة فى أواخر السبعينيات وعلا نجمه واتسع استخدامه حتى منتصف التسعينيات، ولكن حينما بدأت الإنترنت تتخذ شكلا تجاريا مفتوحا على الجماهير الواسعة فى العالم أجمع، انخفضت شعبيته بسرعة.

ــ مرحلة النمو المبكر “التواصل شبه اللحظى”، وسادت فيها مجموعة من الأدوات التى حققت تواصلا إنسانيا شبه لحظى عبر الشبكة، وكان من بين هذه الأدوات:

ــ مجموعات الأخبار التى ظهرت لأول مرة فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، وهى عبارة عن نظام لتبادل الرسائل عبر الإنترنت تشترك فيه مجموعات غير محددة العدد أو الهوية من مستخدمى الشبكة بلا قيود تقريبا، ونظام القوائم البريدية الإلكترونية التى تزامن ظهورها تقريبا مع ظهور مجموعات المناقشة والأخبار بل وتداخل معهما فى كثير من الأحيان، وهو عبارة عن شكل خاص من أشكال استخدام البريد الإلكترونى هدفه إتاحة الفرصة لمستخدم البريد الإلكترونى لكى يرسل رسائل بما لديه من معلومات أو آراء فى أى قضية محل المناقشة إلى عدد يقدر بعشرات أو مئات الآلاف من الأشخاص حول العالم بمجرد ضغطة زر واحدة من حاسبه.

كما شملت هذه المرحلة ايضا المواقع المجانية التى ظهرت لتخدم من يرغبون فى التواصل مع الآخرين عبر آليات تحمل بصماتهم وشخصيتهم الخاصة، ولا يكتفون بمجرد المشاركة برأى سريع أو معلومة مقتضبة أو التعليق الموجز على رأى مخالف أو متوافق مع رؤاهم، ومن الناحية العملية ينتمى هؤلاء فى العادة إلى الفئة التى تمثل صفوة العقول السياسية والعلمية والأكاديمية والثقافية التى يمكن القول إنها منتجة للثقافة.

تطورت المواقع المجانية إلى شكل أكثر بريقا هو المدونات، وهى مواقع مصغرة مجانية أيضا لكنها تختلف عن المواقع المجانية العادية في أن المدونة  يكون هدفها عرض فكر ورأى صاحبها ودعوة الآخرين للإطلاع عليه ومناقشته،  ثم إتاحة ‏ ‏التعليق‏ ‏على ‏الأحداث‏ ‏الجارية‏ ‏وعرض‏ ‏الأخبار‏ ‏المتعلقة‏ ‏بها‏ ‏ليس من جانب صاحب المدونة فقط فقط ولكن من جانب كل زائريه أيضا، وبمزيد من التطور أمكن ربط المدونات بالشبكات الاجتماعية الحديثة كالفيس بوك وتويتر والمواقع التلقيدية بل والمحمول أحيانا، ‏وهكذا دخلت المدونات ضمن أدوات مرحلة التواصل الإنسانى شبه اللحظى وسجلت فى السنوات الأخيرة انتشارا كاسحا خاصة فيما يتعلق بقضايا مثل الإبداع وحقوق الإنسان والحريات السياسية وغيرها.

ــ مرحلة الانطلاق والنضج  “التواصل اللحظى”،  وظهرت فيها عدة أدوات وتكنولوجيات مهمة للتواصل الإنسانى منها المنتديات، وهى عبارة عن برمجيات يتم تركيبها على مواقع الإنترنت فتسمح بتلقى مساهمات وأفكار وآراء وتعليقات وحوارات من قبل أى شخص يسجل نفسه بالمنتدى وعرضها على المشاركين الآخرين فى اللحظة نفسها، ثم إتاحة الفرصة لكل المشتركين الآخرين لقراءة المساهمة فورا والرد عليها فى اللحظة نفسها إن أرادوا، ومنها غرف المحادثة والتراسل الفورى: وهى  أداة أخرى واضحة النضج متاحة بكل سهولة ويسر لمن يريد ممارسة التواصل الإنسانى ولو بصورة خاصة جدا على مستوى شخصى، فعبر هذه الأداة يمكن لأى شخص أن يختار شخصا أو مجموعة أشخاص حسب رغبته وفى التوقيت الذى يتم التوافق عليه بين الجميع لينخرطوا فى حوارات وأحاديث ودردشة حول أى قضية أو موضوع يريدون.

ومن العلامات المهمة في هذه المرحلة ايضا الجيل الثانى والثالث من مواقع الويب والمعروفة باسم “مواقع الويكى”، وهى المواقع التى تتيع تواصل إنساني يحقق ما يعرف بالتعاون من أجل البناء من أسفل بصورة تشاركية تتسم بالإيجابية والندية والاحترام المتبادل بين المشاركين، وفى البداية ظهرت هذه المواقع في مجال الموسوعات مثل موسوعة “ويكيبيديا ” الشهيرة، وفى مجال البرمجيات المفتوحة المصدر التى قادت في النهاية إلى نظام التشغيل المعروف باسم “لينكس” والذى ينافس حاليا بقوة نظم التشغيل التى سادت الأسواق لعشرات السنين، وتقوم فكرة هذه المواقع على تصميم حزم برمجية يتم تركيبها على الموقع تسمح لشخص أو طرف ما أن يبدع فكرة أو قضية  أو يكتب كود برمجى أو خلافه، ثم يفتح ما أبدعه أمام الجميع، ليدخل كل منهم ويضيف ويعدل على الفكرة ويقدم فيها صياغات وجوانب ورؤى جديدة وبهذه الطريق تتحول البذرة الأولى إلى بناء شارك فيه الآلاف وربما مئات الآلاف من المشاركين الذين قد لا يجمعهم تنظيم أو مؤسسة، وسرعان ما اتجهت هذه النوعية من المواقع لتصبح وسيلة أساسية في تطوير الخطط الاستراتيجية داخل المؤسسات الكبرى، ووسيلة لاقتراح وتعديل القوانين والتشريعات في بعض برلمانات العالم، وايضا وسيلة لكتابة روايات ونصوص أدبية بصورة تشاركية ربما يشرف عليها فقط أديب أو قاص من باب التنظيم لا أكثر.

وفى السنوات الخمس الأخيرة ظهرت أكبر واكثر أدوات التواصل الإنساني اللحظي انتشارا وتأثيرا ، وهى الشبكات الاجتماعية متمثلة في الشبكات الاجتماعية مثل فيس بوك التى تعد امتدادا وتطورا لفكرة المنتديات، وموقع تويتر الذى يعد امتدادا وتطويرا لعالم المدونات، وشبكات الفيديو التى تعد أكبر تليفزيون تفاعلى حر عرفته البشرية، وهذه الشبكات عبارة عن مواقع عملاقة تضم اعضاء ومجموعات بعشرات الملايين، ويتاح لهم جميعا تكوين شبكة أو شبكات من الأصدقاء والمعارف الذين يختارونهم بصورة مباشرة أو عبر أصدقاء مشتركين، ويتم داخل هذه الشبكات تبادل للمعلومات والبيانات والصور والافلام والشرائط السمعية التى تخص اعضاء الشبكة  الواحدة وتعرضها فى صفحات خاصة بكل عضو حسب الطريقة التى يحددها لنفسه فى إدارة علاقته مع الآخرين.

أما التطور الأبرز والذى قدم خدمات هائلة لكل ما سبق على صعيد التواصل الانسانى اللحظى فكان دخول الأدوات المحمولة أو “المتنقلة” كبوابة من بوابات المشاركة في التفاعل الإنسانى اللحظى الرقمى الجارى على الشبكة، فظهرت التليفونات الذكية واجهزة الآى باد وغيرها كوسيلة للربط بين مواقع الويكى والمدونات وحسابات تويتر وصفحات الفيس بوك وعشرات الملايين من الاشخاص الذين يتحركون على الأرض، ما بين أعمالهم ومنازلهم وما يرتادونه من أماكن للترفيه والسفر بل والاحتجاج والتظاهر والثورة في آن واحد، وهكذا شكل دخول الأجهزة المحمولة إلى ساحة التواصل اللحظى إعلانا صريحا بسقوط الجغرافيا والزمن كاثنين من أهم العوائق التى كانت تقف حائلا دون اتمام التواصل الإنسانى على نطاق واسع ومستمر، واخيرا اكتملت الحلقة بحدوث نوع من التلاحم العضوى بين الإعلام وظاهرة التواصل الإنسانى اللحظي الجارية عبر الفضاء الالكترونى الثابت داخل الانترنت والمتحرك عبر الأجهزة المحمولة، فأصبحت حركة المحتوى الإعلامى تمضى في اتجاهين، تارة من الفضاء الالكترونى إلى الاعلام الجماهيرى التقليدي، وتارة من الاعلام التقليدى إلى الفضاء الالكترونى، بمعنى ان الكثير من أشكال التواصل الإنسانى وما تتضمنه من احداث واخبار وتوجهات وحملات  في هذا الاتجاه أو ذاك تبدأ مرة من داخل ما يجرى من تفاعلات داخل التواصل الانسانى اللحظى في الفضاء الرقمى ثم تنتقل للإعلام، ومرة اخرى يحدث العكس ويلتقط الفضاء الالكترونى شىء يجرى في الإعلام التلقيدي ويحوله إلى قضية ساخنة بالفضاء الرقمى، وهكذا في دروات تبادلية مستمرة بلا انقطاع.

صناعة القانون وأدوات التواصل الجديدة .. نماذج عملية

في الكثير من دول العالم تفاعلت  ادوات التواصل اللحظى الرقمى مع السمات الجديدة للمواطن والنهج المحسن للدولة  فظهر على الساحة  ما يمكن أن نطلق عليه ” البيئة التفاعلية اللحظية” لصناعة القانون، وهى بيئة تتفاوت في مستوى نضجها واتساعها وفاعليتها من مكان لآخر، لكنها في كل الأحوال تضم مكونات  وتقسيمات أساسية واحدة تقريبا، ويمكن رسم ملامح هذه البيئة التفاعلية في:

1ــ المحتوى المقدم بمعرفة الجهات المالكة للمعلومات عموما داخل الدولة، سواء كانت تشريعية أم غير تشريعية.

2ـ المحتوى المقدم من جهات صناعة القانون وهى المجالس التشريعية والبرلمانات والمحاكم وغيرها من الجهات المختصة بالقانون والتشريع، وهذه بــ :

ــ تتبع ورصد واستشعار الاحتياجات التشريعية للبلاد أو المجتمع ككل سواء من المحتوى المقدم من جهات أخرى، أو من الجمهور والمواطنين.

ــ طرح معلومات خاصة بتشريعات في طور التحضير أو النقاش أو تقييم الأثر.

ـ طرح كل ما يتعلق بالذاكرة القانونية للبلاد “قواعد بيانات التشريعات الوطنية”

3ـ المحتوى المولد بمعرفة الجمهور لحظيا تجاه ما تطرحه جهات التشريع  والجهات الاخرى من محتوى ومعلومات، ويتمثل المحتوى المولد بمعرفة الجمهور في ” التدوينات بالمدونات والتعليقات عليها ـ المشاركات بالمنتديات والردود عليها ـ التغريدات على تويتر وعمليات إعادة الإرسال ـ المشاركات والإعجاب والردود على الفيس بوك ـ البناء التشاركى على مواقع الويكى  ــ سلاسل الرسائل بالقوائم البريدية ـ قنوات الفيديو “، وهذه بالملايين.

4ــ تتحرك كل هذه الانشطة فوق البنية المعلوماتية المتمازجة التى تضم “شبكات ونظم معلومات وقواعد بيانات الجهات المختلفة بالدولة ــ الممر الالكترونى الموحد للبيانات الحكومية إذا وجد ــ  الإنترنت ـ الاجهزة المحمولة ـ شبكات الاتصالات ـ أجهزة الإعلام ” وتعمل كقنوات للتواصل وتداول المعلومات بين جميع الاطراف.

تعمل هذه البيئة بصورة ديناميكية تفاعلية في دورات مستمرة على النحو التالى:

1 ـ ترصد جهات التشريع ما يتداول وينشر من معلومات في الفضاء الالكترونى سواء لحظيا أو غير لحظى لاستخدامه كمادة خام أولية تستشف من خلالها الأولويات والاحتياجات التشريعية للمجتمع، كما يعرض الجمهور وشرائح المواطنين الممثلة للمجتمع بالفضاء الالكترونى ما يرونه لازما من مطالبات واحتياجات أو رغبات تتعلق بالتعديلات التشريعية أو الحاجة لتشريعات جديدة، وفى هذه الحالة يمكن أن يحدث تواصل بين ما تتبعه جهات التشريع وبين ما ترغب فيه الجماهير.

2 ــ  تعود  جهات التشريع لاستخدام الفضاء الالكترونى مرة أخرى من أجل الحصول على “المادة الخام الأولية” للقوانين والتشريعات المزمع “تصنيعها”، وفى هذه المرة لا يتوقف الأمر عند جمع معلومات أنتجها الجمهور والمؤسسات الأخرى بالدولة عرضا أو بالمصادفة، وإنما تعمد إلى طلب المعلومات والبيانات التى تحتاجها من الجمهور وسائر جهات الدولة الأخرى.

3ـ تنخرط جهات التشريع في التحضير لمشروعات القوانين الجديدة وتبدأ في تلقى الاقتراحات والرغبات من الجمهور والمجتمع ككل وهنا يبدأ استخدام وتداول “المحتوى المولد بمعرفة الجمهور” في فضاء التواصل لخدمة التشريع.

4ـ تطرح جهات التشريع مشروعات القوانين للنقاش، وهنا يبدأ التفاعل بين المحتوى المولد بمعرفة القائمين على صناعة القانون ” المسودات ” ومشروعات القوانين، والمحتوى المولد بمعرفة الجمهور، المتمثل في ردود الافعال والتعليقات والمشاركات عبر مختلف قنوات التواصل اللحظى وغير اللحظى.

5ـ تصدر القوانين في صورتها النهائية، لتدخل مرحلة أخرى من التواصل والتفاعل حول المنتج القانونى الذى صدر، وذلك كمرحلة أولى ترصد رد لفعل السريع من جانب الجمهور والمجتمع ، ثم مرحلة تالية يتم من خلالها تتبع آثار تطبيق التشريع عمليا.

أمثلة عملية على دورة التواصل رقميا مع الجمهور

الولايات المتحدة:تواصل عبر نظم استطلاع تليفونية بمساعدة الحاسب

كانت الولايات المتحدة رائدة فى استخدام تكنولوجيا المعلومات كوسيلة للتواصل الجماهيرى عند تصنيع وإصدار القوانين، ومن بين أدوات عديدة جرى استخدامها فى هذا الشأن نشير إلى تجربة التواصل مع الجمهور عبر نظام الاستطلاع التليفونى المعتمد على الحاسب، وفى هذا النظام يطلب المواطن رقم التليفون المعلن من قبل الجهة التى تستعد لإصدار تشريع ها، وتريد تلقى مشاركات المواطنين وآرائهم فى التشريع، وإبداء رأيه من خلال اختيار إجابة معينة تعرض عليه أو إرسال رسالة نصية قصيرة معينة برأيه ـ فى حالة الاتصال من التليفون المحمول ـ ويرسل الرأى أو المشاركة عبر التليفون لتظهر مشاركته فورا لدى الجهة المعنية، ثم يضاف إلى الآراء المتوافقة معه، ويظهر أمام الجمهور فى اللحظة نفسها النتيجة العامة لاتجاهات المشاركين أولا بأول.

استخدم هذا النظام مرارا مع الكثير من التشريعات الأمريكية، وبمرور الوقت شهد مزيد من التطور، وبات الحاسب وتكنولوجيا المعلومات يتدخلان فيه بصورة أكبر، ففى النظم المطورة يتم تحميل الحاسب ببرنامج أو بعدة برامج تقوم بمهمة الاتصال، وتزود بنماذج رقمية جاهزة لاستمارات التواصل، وبمجرد تشغيل البرنامج وفتح خط الاتصال يظهر نموذج استمارة الاستطلاع على الشاشة أمام القائم بالاستطلاع تلقائيا، فيقوم بإجراء المقابلة التليفونية ويدون الإجابات على الحاسب مباشرة، سواء بالكتابة وراء المبحوث أو بالتأشير على الإجابات التى يختارها من بين البدائل المعدة لكل سؤال، وتلقائيا يقوم البرنامج بوضع الإجابات التى يتم الحصول عليها من كل مبحوث فى قاعدة بيانات معدة خصيصا لذلك، ويتم فيها تصنيف وفهرسة الإجابات فى صورة تجعل من السهل تحليلها واستخلاص النتائج منها بشكل فورى أو بإجراء بعض الخطوات الإضافية السريعة، وفى نظم أخرى تم توسيع نطاق البرمجيات ونظم المعلومات المستخدمة فى عملية التواصل مع المواطنين لتشمل نظام صوتى يتلقى المكالمات من المبحوثين ويصدر صوتا بشريا مسجلا يوجه المبحوث لكيفية ملء استمارة الاستطلاع تلقائيا.

كندا :التشريع بمواقع الوصول المباشر بين النائب والجماهير

نظام ديمقراطى نيابى يقوم على أن النائب فى البرلمان لا يتعين أن يقوم بالتصويت أو اتخاذ أى قرار دون الرجوع مباشرة إلى الجماهير التى انتخبته ممثلا لها، بمعنى أن على كل نائب أن يعود لجمهوره ويعرض عليه كل القضايا المطروحة فى البرلمان للمناقشة أو التصويت، ويطلب من الجماهير القيام بالتصويت على القضية أو القرار بالقبول أو الرفض أو التعديل، وحينما يصل مع ناخبيه إلى النصوص التى يرتضونها فى التشريع الجارى إعداده، يقوم بحمله والتصويت عليه  داخل البرلمان بالطريقة التى أقرتها جماهير دائرته ولهذا تسمى ديمقراطية التواصل أو الوصول المباشر التى تجعل المقاطعة أو الدائرة الانتخابية هى السلطة النهائية، وعندما يقرر الشعب أو جمهور الناخبين بالدائرة عدم المشاركة تبدأ سلطة صنع القرار فى العودة إلى التمييز والتقدير الشخصى الخاص بالنائب، ويقول أصحاب هذا النموذج الديمقراطى أن بإمكانه العمل داخل أى نظام للديمقراطية النيابية دون أى تغييرات دستورية، ويمكن استغلاله بواسطة النواب المنتخبون فى أى هيئة حاكمة.

وتوجد على الإنترنت العديد من المواقع التى تتحدث عن مناطق كندا وأمريكا وأوروبا  يقوم فيها النواب بتطبيق اداة ” التشريع بمواقع الوصول المباشر” ومن هذه المواقع ما يلى:

Democracy Innovations

سويسرا: التشريع بالتصويت الالكترونى المباشر

تطبق سويسرا تجربة ” التشريع بالتصويت الالكترونى المباشر” وفى هذا التجربة يتم استخدام آلية التصويت الالكترونى كوسيلة للتواصل المباشر بين جهات التشريع والشعب مباشرة وليس عبر النواب فى البرلمان المنتخب، حيث يستخدم هذا النوع من التشريع دورة التواصل الكاملة الكترونيا، بدءا من التفكير فى التشريع والتحضير له، ثم مناقشة المسودات، ثم التصويت علي التشريع بصورة نهائية من قبل الجماهير وإصداره دون المرور بالبرلمان، وفى هذه الدورة تستخدم جميع أشكال التواصل المتاحة عبر بيئة المعلومات المتمازجة السابق الإشارة إليها، لكن التصويت النهائى يتم من خلال نظم التصويت الالكترونى السريعة المعتمدة بسويسرا، وقد استخدم هذا الاسلوب مرات عديدة من ابرزها الموافقة على تقنين الاجهاض، والموافقة على عدم بناء مآذن المساجد، وتقول الإحصاءات الرسمية السويسرية أن حوالى 50% من السويسريين يستخدمون الانترنت فى ممارسة حقهم فى  التشريع المباشر عبر التصويت الالكترونى.

ايطاليا: تعديل تشريعى عبر المحمول

منذ عدة سنوات شهدت إيطاليا تجربة للتواصل الجماهيرى اللحظى فى صناعة القانون، حيث كانت الحكومة فى ذلك الوقت بصدد القيام بتعديل على قانون الضرائب، ورأت الحكومة أن تحشد أكبر قدر من الموافقة والتفهم الجماهيرى لهذه الخطوة، فعمدت إلى استخدام التليفونات المحمولة كوسيلة للتواصل مع الشعب فى شأن هذا التعديل، وعند التنفيذ العملى تم إنشاء نظام معلومات يجمع ما بين الإنترنت وشبكات الاتصالات المحمولة وشبكة المعلومات الحكومية، وجرى من خلاله بث رسائل نصية على التليفونات المحمولة للمواطنين بشكل جماعى، تحمل نصوص المواد المراد تعديلها ونصوص التعديلات الجديدة ، ورسائل نصية أخرى تطلب الموافقة أو الرفض على التعديلات، أو كتابة تعليق او نص بديل، ثم إعادة إرسال الرسالة للرقم الذى بثت منه، وعبر بوابات الربط بين شبكات المحمول وتكنولوجيا الإنترنت تلقت الحكومة سيلا من الردود بالملايين من المواطنين حول التعديل المقترح على القانون قبل الذهاب به إلى البرلمان، وفى هذا السياق عملت الإنترنت كطرف وسيط فى النقل، وايضا فى إتاحة الفرصة للمواطنين لمتابعة توجهات التصويت على التعديل لحظة بلحظة، وقد استمر هذا الشكل من التواصل الرقمى مستمرا بلا انقطاع حتى انتهت الحكومة من صياغة التعديل والدفع به للبرلمان، وقد عبر الكثير من المحللين عن أن هذه الخطوة من جانب الحكومة سهلت إلى حد كبير قبول البرلمان للتعديل المقترح عند الموافقةن وايضا قبول الشعب به بعد صدوره.

الجمعية التأسيسية للدستور المصرى: مشاركة عبر مواقع الويكى

على الرغم من أن الجمعية التأسيسية للدستور المصرى التي تأسست في عام 2012 واجهت الكثير من الانتقادات، ولم تنجح بالدرجة المناسبة فى تحقيق تواصل جماهيرى واسع النطاق، إلا أنها شهدت تجربة اللجوء إلى تكنولوجيا المعلومات كوسية للتواصل مع الفضاء الالكترونى المصرى على الانترنت، الذى يشهد منذ قبل قيام الثورة حالة عالية ومشهود لها من الديناميكية والفاعلية  والتوسع يوما بعد آخر، وتلخصت تجربة الجمعية فى إنشاء موقع جرى تصميمه وتشغيله بتقنيات الجيل الثانى للويب، التى تسمح ـ كما سبقت الإشارة ـ  بتفاعل وتواصل جماهيرى يقوم على فكرة البناء من أسفل، وقامت بربط الموقع بالفيس بوك وتويتر، فضلا عن خدمة البريد الالكترونى، وخلال فترة إعداد الدستور تلقى الموقع 614 ألفا و194 مشاركة وتعليق على مواد الدستور المختلفة، وكان الموقع يتيح وضع التعليقات والمشاركات بكل مادة على حدة، ولكن بعد وضع تصنيف موضوعى طبقا لأبواب الدستور الخمسة.

يلاحظ فى هذه التجربة انخفاض عدد المشاركين والذين قاموا بالتعليقات عن العدد المتوقع، ويعود ذلك الى أسباب عديدة منها أن الموقع اشترط التسجيل عبر حسابات فيس بوك وتويتر لكى يتمكن المواطن من وضع تعليقه أو مشاركته بالدستور، وهذه الخطوة تتضمن حصول موقع الجمعية والقائمين عليه على بيانات ومعلومات بصورة تلقائية آلية عن حسابات الراغبين فى المشاركة والتعليق بالشبكات الاجتماعية وتويتر والبريد الالكترونى، الامر الذى يعتبره البعض تدخل فى الخصوصية لا يقبلون به ومن ثم عزفوا  عن المشاركة.

ومن الأسباب ايضا أن القائمين على الجمعية لم يستخدموا الموقع كآلية موازية للتطوير الذاتى لمواد الدستور بمعرفة الجمهور، بمعنى أن قدرات تقنيات الويكى استخدمت فقط فى عرض التعديلات المتتالية التى كانت تقوم بها الجمعية نفسها على المواد، ولم تستخدمها فى منح الجمهور الفرصة لتطوير النصوص بنفسه ولو بصورة موازية غير رسمية لما جرى فى الجمعية.

وجه جديد لصناعة القانون

خلاصة الأمر أن كل التأثيرات والتغييرات السابقة والدخول الكبير لآليات التواصل الرقمى إلى حلبة صناعة القانون بات يغير من هذه الصناعة ويكسبها وجها جديدا وسمات مختلفة وذلك على النحو التالى:

1ـ أنها صناعة تتجه نحو الاستناد إلى البيانات القاعدية الأساسية المستقاة عبر كل ما تتيحه أدوات رصد وانتاج ونقل ومعالجة البيانات والمعلومات في شتى الاتجاهات، ثم تحويل هذه البيانات إلى معلومات ثم معرفة يتم الاستناد إليها في وضع القوانين.

2ــ أنها صناعة باتت تواجه تحدى “التقلص والانكماش” في المدى الزمنى لدورة إنتاج وتصنيع القوانين، والتى تبدأ باستشعار الحاجة للقوانين والتحضير لها وإصدارها ومتابعة تنفيذها، فالمدى الزمنى لهذه الدور يقل مع الوقت بفعل سرعة تداول البيانات والمعلومات وسرعة تغير الامزجة والطموحات والآمال والسلوكيات من قبل الجماهير، ولذلك فإن القوانين التى تصنع لتعيش عقود وآجال طويلة  لم تعد هى الخيار العملى والواقعى السائد على الساحة.

3ـ أنها صناعة القوانين لم تعد مهمة طرف واحد يقوم بها فقط أو بصورة كاسحة، وهو النخبة الضيقة من المتخصصين في القانون والدوائر اللصيقة بهم في التخصصات الاخرى المختلف، لكنها أصبحت صناعة مفتوحة متعددة الأطراف، بل مترامية الاطراف، وذلك بفعل وقوعها تحت مظلة التفاعلية والمشاركة التى امتد نطاقها ليشمل قطاعات واسعة من المجتمع، تستطيع ممارسة الضغط والقبول والرفض ولا سبيل لاحتواء تأثيرها إلى بالتوافق والاحتواء وإفساح المجال لها للمشاركة.

4 ـ أن صناعة القوانين تتحول إلى صناعة “تحت المجهر” طوال الوقت، تصل فيها الشفافية إلى مستويات غير مسبوقة، وربما لا تضاهى بصناعات اخرى، وكل ما كان يدار أو يتم اللجوء إليه من ممارسات خفية أثناء إعداد القوانين وإنتاجها أصبح الآن عرضة للانكشاف في أى لحظة، بل يمكن القول أنها صناعة أصبحت كل تفاصيلها تجرى تحت رقابة ومتابعة وملاحظة ملايين من المواطنين والجهات على مدار اللحظة.