يشير سجل درجات حرارة الأرض خلال الـ 170 عاماً الماضية، أو تحديداً من العام 1850 إلي العام 2019، إلى حدوث ازدياد مضطرد في درجة حرارتها، من عام لآخر ومن عقد لآخر ومن قرن لآخر، ولا تتوقف أزمة ارتفاع درجة حرارة الأرض عند الارتفاع فقط، بل في تسارع معدل الارتفاع، وهذا هو الأخطر، فمقدار الارتفاع الذي كان يستغرق عدة عقود وربما نصف قرن أو قرن لكي يحدث في الماضي، بات يحدث في الفترات الأخيرة خلال عقد أو أقل، وبات من المؤكد أن ارتفاع درجة حرارة الأرض يترتب عليه سلسلة من العواقب الوخيمة على البشرية كافة، لكن تسارع الارتفاع بالمعدل الذي يحدث به الآن، يجعل هذه العواقب تحدث خلال مدى زمنى أقل، ويجعل الضرر الناجم عنها محسوسا ومؤلما.
يمكن لأى متابع أن يستخلص هذه القراءة للمشهد المناخي للأرض من زاوية درجة الحرارة، إذا ما راجع الأرقام الخاصة بسجل الشذوذ أو التغير في درجات الحرارة المسجلة سنويا على الكرة الأرضية، وفي مركز «جسور» قمنا بهذه المراجعة، وفقا للبيانات المتاحة عن الشذوذ في درجة حرارة الأرض المسجلة سنويا منذ بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر «بداية عام 1950»، وحتي نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين «نهاية عام 2019»، وتم الحصول على سجلات درجة حرارة الأرض في صورتها الأولية الخام من موقع منظمة عالمنا في أرقام « https://ourworldindata.org»، وهي بيانات تقيس الشذوذ في درجة حرارة الأرض استناداً إلي المتوسط العام لدرجة الحرارة المسجلة على الأرض خلال الفترة من 1961 الي 1990، وتتخذ من هذا المتوسط نقطة أساس، يتم الاستناد إليها في تقدير معدل الشذوذ في درجة الحرارة ارتفاعاً وانخفاضاً خلال فترة الرصد الممتدة على مدي 17 عقداً من الزمن أو 170 عاما، وتم في جسور تصنيف هذه البيانات، وتوزيعها على القرون والعقود المختلفة، وربطها بالنطاقات الجغرافية الأربعة، المعتاد قياس درجات حرارة الأرض عليها، وهي نصف الكرة الشمالي، ونصف الكرة الجنوبي، والمناطق المدارية، ثم العالم أجمع.
أسفرت التحليلات التي أجريت على البيانات عن نتائج إجمالية أولية، تعبر عن الشذوذ في درجات حرارة الأرض على مستوي القرون الثلاثة الخاضعة لفترة الرصد، وهي التاسع عشر والعشرون والحادي والعشرون، وفي هذا الصدد تبيّن أن درجة حرارة الأرض على مستوي العالم أجمع خلال القرن التاسع عشر كانت أقل من المتوسط العام المستخدم كنقطة أساس بواقع 0.31 درجة مئوية، وفي القرن العشرين كانت أقل من المتوسط العام بـ 0.962 درجة، أي ارتفعت بمقدار 0.21 درجة خلال القرن العشرين، وفي القرن 21 ارتفعت درجة حرارة الأرض بمقدار 0.5372 درجة عن المتوسط العام، وبالتالي تكون قد ارتفعت بمقدار 0.85116 عن درجة حرارتها في القرن التاسع عشر، وبمقدار 0.63342 عن درجة حرارتها في القرن العشرين، وذلك كما يوضح الجدول رقم «1».
بالقراءة المتأنية للأرقام الواردة في الجدول، يتبين أن الأمر استغرق 170 سنة لكي ترتفع درجة حرارة الأرض بكاملها بمقدار 0.85 درجة، وهو الشذوذ الذي حدث خلال القرون الثلاثة، لكن الأمر استغرق عشرون عاما فقط لكي ترتفع بمقدار 0.63 درجة، وهو الشذوذ الذي حدث خلال العقدين الأول والثاني من القرن 21، مقارنة بالشذوذ الذي حدث خلال القرن العشرين بأكمله أي مائة سنة، ويعد هذا أخطر مؤشر دال على ما تواجهه الأرض من تهديدات.
عند النظر للأرقام بصورة أكثر تفصيلاً، أي على المستوى الجغرافي القطاعي، وليس العالم أجمع، سنجد أن هناك تفاوت واضح في مسئولية كل جزء من الأرض عن هذا التغير المناخي الخطير.
وللوهلة الأولى، تُبين الأرقام أن نصف الكرة الشمالي هو المسئول الأكبر عن كارثة ارتفاع درجة حرارة الأرض، مقارنة بنصف الكرة الجنوبي والمناطق المدارية، فالأرقام تقول أن نصف الكرة الشمالي كان أكثر مناطق العالم سخونة، والأكثر شذوذا في درجة حرارته خلال فترة الرصد بكاملها.
ففي القرن التاسع عشر كانت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي تقل عن المتوسط العام بمقدار 0.28 درجة مئوية، في حين كان نصف الكرة الجنوبي يقل عن المتوسط بمقدار 0.34 درجة، والمناطق المدارية ـ الحارة بطبيعتها ـ تقل عن المتوسط العام بمقدار 0.26 درجة.
في القرن العشرين ارتفعت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي أكثر، لتصبع أقل من المتوسط بـ 0.058 درجة، فيما ظلّ نصف الكرة الجنوبي أكثر برودة من الشمالي، وكان منخفضا عن المتوسط العام بـ 0.13 درجة، وكانت المناطق المدارية أقل من المتوسط بـ 0.074 درجة، وتعني هذه الأرقام أن المناطق الثلاثة شهدت ارتفاعاً في درجات الحرارة، لكن الارتفاع في نصف الكرة الشمالي كان هو الأكبر بلا منازع.
ازدادت مسئولية نصف الكرة الشمالي عن ارتفاع درجة حرارة الأرض خلال العقدين الأول والثاني من القرن ال 21، حيث ارتفعت درجة حرارته عن المتوسط العام بمقدار 0.71 درجة، وهو معدل يزيد بقدار الضعف تقريبا عن الارتفاع الذي حدث في نصف الكرة الجنوبي، الذي سجل ارتفاعا خلال العقدين الماضيين قدره 0.36 درجة مئوية، فيما سجلت المناطق المدارية ارتفاعا قدره 0.46 درجة، وإذا ما وضعنا هذه الأرقام أمام المتوسط العام لارتفاع درجة حرارة الأرض في العالم أجمع، سنجد أن نصف الكرة الشمالي مسئولا وحده عن ما يقرب من ثلثي الشذوذ الحالي في درجة حرارة الأرض.
يعرض الجدول رقم «2» الأمر بصورة أكثر تفصيلاً، فهو يقارن الشذوذ الذي حدث بدرجة حرارة الأرض خلال العقد الماضي ــ 2010 / 2019 ــ بكل عقد من العقود الستة عشر السابقة عليه بدءاً من أول عام 1850، وانتهاء بعام 2009، ويشير الجدول إلي أن هناك ثلاثة عقود بلغ معدل الشذوذ بينها وبين العقد الاخير أكثر من درجة مئوية كاملة، وهي العقد السادس من القرن التاسع عشر الذي كانت درجة حرارة الأرض فيه اقل بمعدل 1.2 درجة من درجة حرارتها في العقد الأخير، والعقد الأول من القرن العشرين الذي كانت درجة حرارة الأرض خلاله أقل بمعدل 1.014 درجة مئوية من العقد الأخير، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي كانت درجة حرارة الأرض خلاله أقل بـ 1.074 درجة من العقد الأخير، ويشير الجدول أيضا إلي أن هذه الزيادات جاءت بالأساس من النصف الشمالي للكرة الأرضية، الذي ازدادت سخونته مقارنة بالعقود السابقة من القرون الثلاثة بمعدل1.15 و1.4 و 1.5 درجة على التوالي.
لا تختلف هذه النتيجة كثيرا عن الواقع الفعلي على الأرض، فالنصف الشمالي من الكرة الأرضية، وتحديدا أوروبا والولايات المتحدة وروسيا والجزء الشمالي من الصين واليابان، هو المسئول عن أكثر من ثلاثة أرباع الأنشطة الصناعية والحضرية، التي تنتج الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، ومن ثم رفع درجة حرارة الأرض ككل، وإذا ما أخذنا توزيع السكان على الأرض في الاعتبار، سيتضح أن ربع سكان الأرض أو يزيد قليلا، يتحملون الجزء الأكبر من المسئولية عن ظاهرة مناخية تهدد حياة ومستقبل كل سكان الأرض جميعاً.