إذا كانت العدالة هي أحد التطلعات والأحلام الأساسية للبشر في كل زمان ومكان فإن تحقيقها ظل لزمن طويل وما زال حتى الآن يمثل إحدى الوظائف الحصرية للدولة. لكن مرفق القضاء المنوط به تحقيق هذه العدالة يواجه حالياً العديد من المتغيرات والتحديات بعضها راجع إلى الزيادة المطردة في عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم، وتعقد المعاملات، وظهور أنماط جديدة من المنازعات ذات الطبيعة الخاصة التي تتطلب سرعة البت فيها، وربما يعكس بعضها أيضاً ظاهرة اجتماعية هي شيوع الشكوى واللدد في الخصومة. كانت حصيلة كل هذه المعطيات والعوامل أن أصبح مرفق القضاء ينوء بعبء كبير جعل الحاجة ضرورة وملحة إلى البحث عن وسائل خاصة لحل المنازعات بعيداً عن الآليات القضائية التقليدية لا سيّما في بعض القضايا التجارية ومنازعات الاستثمار من خلال ما يُعرف بنظم التحكيم. والأمر لا يقتصر في الواقع على هذا النمط من القضايا والمنازعات بل يشمل أيضاً اللجوء إلى نظم أخرى غير قضائية أو سابقة على مرحلة التقاضي بالمعنى الضيق في منازعات الأحوال الشخصية والقضايا العمالية وبعض المنازعات الإدارية. ولم يكن اللجوء لمثل هذه الآليات والنظم الجديدة سوى بهدف البحث عن العدالة الناجزة بوسائل أخرى، لكن هذه الوسائل لا تعني بحال من الأحوال أننا بصدد قضاء عرفي أو مجتمعي لكنها تعني وجود بدائل أخرى ينظمها المشرع الوطني بنفسه تتسم (أو هكذا يُفترض) بالسرعة والفاعلية والتصالحية.
والواقع أن كل نقاش حول العدالة الناجزة يجب أن ينطلق أساساً من مقارنة أعداد القضاة والقضايا المنظورة أمامهم. من السهل معرفة عدد القضاة في مصر الذي يبلغ وفق التقديرات المتداولة نحو 17 ألف قاض في القضاء العادي بخلاف ثلاثة ألاف قاض تقريباً في مجلس الدولة، أما أعداد القضايا أو الدعاوى المنظورة أمام المحاكم المصرية فثمة صعوبة شديدة في معرفة الرقم الصحيح لها والذي يتفاوت بحسب المعيار المستخدم لاستخلاصه ويتوقف على تعريف مفهوم القضية أو الدعوى، وبرغم ذلك فإن هذا الرقم بالغ التفاوت يرتفع في تقدير البعض إلى 60 مليون قضية ويهبط في تقديرات أخرى ليصل إلى 15 مليون قضية. وبصرف النظر عن الرقم الحقيقي لعدد القضايا المنظورة أمام المحاكم فالأمر المؤكد أن الرقم بالغ الضخامة على ضوء العدد المحدود للقضاة لا سيّما في مجتمع شكّاء صارت الشكوى والاختصام جزءاً من ثقافته حتى في الأمور التي كان يمكن معالجتها خارج ساحات القضاء.
وفي مجال القضايا الجنائية التي وصل عددها وفقاً للتقديرات المتداولة السابق ذكرها إلى عدة ملايين يمكن لنظم العدالة التصالحية بمختلف صورها أن تكون بديلاً يرفع عن كاهل القضاء جزءاً كبيراً من هذه القضايا، ولدينا بالفعل نصوص قانونية تجيز التصالح في الكثير من الجرائم الماسة بالمصالح الخاصة للأفراد، وبل أصبح جائزاَ منذ عدة سنوات التصالح في جرائم الاعتداء على المال العام، ومؤخراً صار ممكناً التصالح بشأن جرائم الاستيلاء على أراضي الدولة. وهي سياسة تشريعية تساير التوجهات الحديثة في الفكر الجنائي وفلسفة العقاب. وهناك اليوم سؤال جديد وجاد مطروح في معظم دول العالم بدرجات متفاوتة حول مدى نجاعة الحلول العقابية التقليدية القائمة على فكرة سلب الحرية خصوصاً في الجرائم المالية إذا كان يمكن معالجتها بحلول تصالحية أخرى تقوم على فكرة المنفعة (منفعة الخزانة العامة ومصلحة المتهمين أنفسهم بتفادي عقوبة سلب الحرية بما تنطوي عليه من مساوئ عرضية في العديد من الحالات)
ومن البدائل المتاحة منذ زمن للمسار القضائي التقليدي وإن كان ينقصها التطوير والتفعيل ما يُعرف بنظام الأوامر الجنائية التي تصدرها النيابة العامة بدون عرض الدعوى أمام المحكمة لتكون مساراً بديلاً للمحاكمة التقليدية، لكن مجال تطبيقها يقتصر على الجرائم التي لا يكون الحبس فيها وجوبياً أو لا يزيد مبلغ الغرامة فيها على ألف جنيه، وما عدا ذلك يجب نظره أمام المحاكم الجنائية بالطريق التقليدي ولو كان بشأن جرائم أخرى يسيرة يعاقب عليها بالغرامة التي تبلغ عدة آلاف من الجنيهات. ويرى كثر في الفقه الجنائي أهمية تطوير نظام الأوامر الجنائية برفع سقف العقوبة المقرّر لها كمسار بديل ربما لملايين القضايا قليلة الجسامة والأهمية بدون دعاوى وإعلانات وجلسات وإجراءات وطعون.. إلخ
ثمة أيضاً مسارات تصالحية قائمة نظرياً لكنها غير فاعلة واقعياً يمكن من خلالها تفادي جزء كبير من قضايا متراكمة أمام المحاكم الإدارية. فالقانون يوجب كشرط لقبول الدعاوى الإدارية سبق عرضها على لجان للتوفيق وفض المنازعات. صدر تشريعان من قبل بشأن هذه اللجان في عامي 2000 و2017 وأوجب التشريع الأخير أن تصدر اللجنة قرارها (توصيتها في القانون القديم) خلال 30 يوما (كانت 60 يوماً في القانون القديم) وما زال الأمر يتطلب تنظيماً قانونياً أكثر فاعلية وإحكاماً وسرعة. مع الأخذ في الاعتبار أنه لا بد عملياً من انقضاء أربعة شهور (على الأقل) قبل إمكان انعقاد أول جلسة لنظر منازعة في قرار إداري بالطريق التقليدي أمام المحاكم الإدارية. ولعلً واقع امتداد أجل نظر الطعون أمام المحكمة الإدارية العليا لمدة طويلة أحياناً يكشف عن مدى الحاجة إلى تفعيل المسارات والبدائل الأخرى.
مسار تصالحي آخر يتمثل في مكاتب تسوية المنازعات الأسرية التي ينص عليها قانون إنشاء محاكم الأسرة. عرض النزاع أمام هذه المكاتب مرحلة وجوبية سابقة على نظر الدعوى أمام المحكمة لكن ثمة تساؤلات حول ما إذا كانت هذه المكاتب قد أسهمت بالفعل في حل المنازعات الأسرية والتخفيف من الأعداد الهائلة لقضايا الأسرة المتراكمة في أروقة المحاكم؟ وإذا لم تكن فاعلية هذه المكاتب متحقّقة بالقدر المرجوّ كيف يمكن معالجة ذلك؟ ولعلّ أحد البدائل والآفاق الجديدة للعدالة في التشريع المقارن في بعض الدول الأجنبية هو ما يُطلق عليه نظام الاقرار المكتوب بالجرم كبديل عن نظر الدعاوى الجنائية بالطريق التقليدي أمام المحاكم. ومؤدى هذا النظام أنه بدلاً من اجراءات المحاكمة التي تستغرق احياناً مدة طويلة تصل لسنوات يقوم المتهم بالإقرار بارتكابه الجريمة في جلسة واحدة يسبقها كتابة تقرير باعترافه يوقع عليه مع محاميه. ويطلق على هذا التقرير في القانون الأمريكي دونما مواربة تقرير «المساومة» أو التفاوض كتسمية براجماتية وواقعية لا يخجل منها الامريكيون! فهم يساومون المتهم ويتفاوضون معه لكي يعترف بأنه مذنب لتفادي الكثير من الوقت والاجراءات والنفقات وفى مقابل ذلك يتم مكافأة المتهم بإعفائه من العقوبة أو إخضاعه لتدابير من نوع آخر مقابل اعترافه بالجريمة كأن يؤدى لفترة زمنية معينة عملاً لخدمة المنفعة العامة أو خدمة لمؤسسة او جمعية اهلية أو مؤسسة لرعاية الاطفال او دار للعجزة. وقد يكون البديل عن السجن هو الخضوع لبرنامج تدريبي او تأهيلي لا سيما بالنسبة لمرتكبي جرائم العنف الاسرى. وقد يكون البديل في الجرائم المالية هو تعويض المجني عليه والخضوع لنظام المراقبة.
تنطلق كل هذه المسارات البديلة من الحاجة إلى عدالة ناجزة في ظل تكدس القضايا والشكوى من قلة أعداد المحققين والقضاة وهي ظاهرة تعاني منها كل مجتمعات العالم بلا استثناء تقريباً. لكن هذه المسارات تلتقي عند سؤال واحد هل أسهمت بالفعل في تحقيق العدالة الناجزة على النحو المنشود؟ هذا سؤال يحتاج بدوره إلى نقاش.