أصبح التحول الرقمي أمراً حتمياً بالنسبة للبنوك، ويبدو أن تطبيق التكنولوجيا الحديثة لم يعُد خياراً، بعد أن أضحت بعض العوامل مُلِحَة وهامة مثل احتياجات العملاء وتقليل التكلفة وزيادة الإنتاجية، وكان لوباء كورونا التأثير الأكبر في هذا التحول الرقمي حين عُرقلت سبل التواصل الاجتماعي، مما دعى البنوك للتواصل مع عملائها من خلال الشبكات الرقمية مثل المنصات والتطبيقات. زاد عدد المستخدمين الرقميين بنسبة %23 منذ بداية الوباء. لكن لا يُمكن اعتبار هذه التطورات التكنولوجية شيئًا جديدًا، لأن عملاء البنوك قد انتقلوا من الخدمات المصرفية التقليدية القائمة على الفروع إلى البدائل عبر الإنترنت والهاتف المحمول منذ عدة عقود حتى الآن، وأصبحوا أكثر دراية باستخدام المنتجات عبر الإنترنت. وقد أدّى ذلك إلى فتح السوق للوافدين الجدد مثل شركات التكنولوجيا المالية “Fintechs” ومنصات التكنولوجيا الكبيرة “Bigtechs” القادرة على تطوير واجهات جذابة وسهلة الاستخدام لخدمة العملاء يتم تقديمها بطريقة فعّالة تتيح تفكيك الخدمات المالية وتزويد العملاء بمجموعة واسعة منها.
وتتجلّى كفاءة الخدمات المُقدمة عبر الإنترنت فقط في «WeBank» ذلك الكيان الصيني الذي تم إطلاقه في عام 2014، ويخدم الآن أكثر من 200 مليون عميلاً فردياً و1.2 مليون مؤسسة صغيرة ومتوسطة الحجم، ويعمل به 2000 شخص فقط رغم عدم وجود فرع واحد له. وبالتالي فإن تكاليفه الثابتة أقلّ، في حين أن دخله من العملاء هو واحد على ثلاثين من المعدل العام للبنوك ويُمكن أن يزيد العائد على حقوق الملكية الخاص به عن %30. مثال آخر هو الكيان البرازيلي «Nubank» الذي يُقدم بطاقات الائتمان والقروض الشخصية إلى 50 مليون عميلاً لم يتمكن معظمهم من الحصول على قرض من البنوك التقليدية بسبب افتقارهم إلى تاريخ ائتماني، في حين يستخدم «Nubank» بيانات حول سلوك العميل والخوارزميات الخاصة به لإجراء عمليات تقييمه ائتمانياً.
وقد تمكنت شركات التكنولوجيا الكبيرة مثل «Amazon وGoogle» أيضًا من تقديم الخدمات المالية سريعاً باستخدام شبكاتهم، وبيانات العملاء، والتكنولوجيا المتاحة للتركيز على خدمات مالية محددة مرتبطة بخدماتهم الأخرى. وجرى العرف أن تكون البنوك التقليدية بمثابة حارس بوابة لبيانات العملاء لاسيما تلك اللازمة لتقييم الجدارة الائتمانية للعميل. غير أن شركات التكنولوجيا الكبرى هي أيضًا قادرة باستمرار على إجراء تقييمات مماثلة بالاستفادة من بيانات العملاء، وهو ما يمثل تحدٍ حقيقيٍ لدور حارس البوابة التقليدي الذي تقوم به البنوك.
ويبدو أن الراحة، وقبل كل شيء سهولة الاستخدام، هي السبب وراء نجاح هؤلاء اللاعبين الجُدد في السوق. بمعنى آخر، أن العملاء يُقدِرون تَمكُنهم من الوصول إلى جميع الخدمات المالية المهمة لهم عبر الإنترنت أو عبر الأجهزة المحمولة، بل ويفضلونها عن الخدمات التقليدية خاصةً إذا كانت أبسط في الاستخدام. بالإضافة إلى قُدرة العملاء على الاختيار من بين المزيد من الخيارات المُصممة خصيصًا لهم وفقاً لاحتياجاتهم وطلباتهم، بما في ذلك الخدمات غير المالية. وتستند هذه الخيارات إلى البيانات الشاملة التي يجمعها مقدمو الخدمة حول السلوك اليومي لعملائهم. وكما هو واضح في مثال «Nubank» يستطيع مُقدمي الخدمات المالية استخدام وتحليل بيانات العملاء لإتاحة خدمات للذين ليس لديهم سجل ائتماني قوي، ممّا يؤدي إلى زيادة الشمول المالي. بالإضافة الى المبادرات الأخرى مثل «Apple Pay» التي تساعد أيضًا على زيادة خيارات الخدمات المالية، مما يُعزز موقف الأسواق الناشئة.
ومع ذلك، فإن تقديم خدمات سهلة الاستخدام قائمة على التكنولوجيا لا يضمن ربحية مباشرة، والكيان الألماني «N26» خير مثال على شركات التكنولوجيا المالية التي لم تنجح بعد، بالرغم من عدد عملائها البالغ عددهم 7 ملايين في 24 دولة، فقد اضّطُرت إلى التوقف عن تقديم خدماتها في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. ومع ذلك، فإن قيمتها السوقية التقديرية المرتفعة تدُل على توقعات بأرباح مستقبلية.
وأظهرت الجائحة إلى حدّ ما أن الاستثمارات الرقمية للبنوك قد قدّمت على الأقل مرونة تشغيلية، حيث كان على البنوك التعامل مع التحديات الكبرى وأثبتت البِنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات لديها أنها على المستوى المطلوب. ومن ثمَ تعمل معظم البنوك الآن على تسريع ابتكاراتها التكنولوجية، فهي لم تخسر ولا زالت تحافظ علي ولاء وثقة عملائها بها. لكن في السياق ذاته فإن فشل بعض مزودو الخدمات الجُدد مثل «Wirecard» مفاده أن يظل العملاء مرتابين وحذرين من التحول إلى مقدمي الخدمات الجُدد.
ومما لا شك فيه أن الرقْمَنة تُعد عنصرًا أساسيًا في إنشاء نموذج أعمال متوافق مع المستقبل، حيث تكافح البنوك التي لا تتبع هذا التطور نحو تحقيق نجاحات في هذه البيئة التنافسية. ومن الأمثلة التي نواجهها بانتظام، الحوسبة السحابية التي زادت أهميتها بالنسبة للبنوك عن أي وقت مضى وتسعى من خلالها إلى تطوير أنظمة تكنولوجيا المعلومات خاصتها، من ثم يتم تشغيل المزيد من الأنشطة في السحابة التي تتطور باستمرار مع كونها أكثر توفيراً للبنوك التي تدير بنفسها البيانات الخاصة بها، وبالتالي زادت الرغبة في الاستعانة بمصادر خارجية لتقديم أنشطة مصرفية من خلال مُقدمي خدمات خارجيين يتم مراقبتهم بعناية للتأكد من عدم تحول البنوك إلى هياكل فارغة أو خلق عقبات أمام المراقبة الفعّالة.
الأهم من ذلك، أن الأمر لا يجب تحميله على عاتق البنوك فقط في هذا العصر الجديد، بل يتعين على المراقبين أيضًا تعزيز مهاراتهم ومواردهم الإشرافية لمراقبة التحولات الرقمية للبنوك بشكل فعّال حيث يجلب التطور التكنولوجي تحديات جديدة لأساليب الإشراف التقليدية، مثل سلاسل القيمة المجزأة التي تسمح بالولوج الدائم إلى بيانات العملاء من خلال الأدوات القائمة على الخوارزميات مما يُعرقل عمليات المراقبة التقليدية. ومن المتوقع أن يؤدي هذا إلى مزيد من التحسينات وزيادة الكفاءة في المستقبل مثل بناء أنظمة من شأنها أن تمنح المراقبين الوصول المباشر إلى أنظمة بيانات البنوك، مما يسمح لهم ببساطة وفعالية «سحب» البيانات ذات الصلة عند الحاجة.
وأخيرًا، في ظل التغيّر المستمر يتضمن جدول الأعمال الرقمي للمفوضية الأوروبية مقترحات تنظيمية جديدة، مثل قانون المرونة التشغيلية الرقمية (DORA) ولائحة الأسواق في الأصول المشفرة (MiCA). وفي مقدمة الاختبارات الإلكترونية، يضع فريق الإتحاد الأوروبي للأمن السيبراني المعروف بـ«TIBER-EU» إطارًا جديدًا له، وتناقش المنتديات الدولية القضايا المتعلقة بالرقمنة لاسيما مجلس الاستقرار المالي ومجموعة الدول السبع.
المصدر: موقع البنك المركزي الأوروبي – التحول الرقمي في قطاع البنوك الأوروبية من المنظور الرقابي