النظر إلى ما تحصل عليه الحكومات حول العالم من خيرات شعوبها ومواردها وناتجها المحلي الإجمالي في صورة ضرائب ورسوم ومتحصلات أخري، ربما يدفع إلي الساحة بفرضية مفادها أن الحكومات تستعذب وربما تستسهل دوما الميل إلي رفع حصتها من عائدات شعوبها، ويكفي دلالة علي ذلك أنه عند قياس نسبة ما حصلت عليه الحكومات من الناتج المحلي الإجمالي للشعوب والأوطان نجد أنها قد ارتفعت بمعدل 115% خلال الـ 40 عاماً الماضية، أي خلال الفترة من 1980 الي 2020، ما يعني تلقائياً أن الجباية وتحصيل الأموال اقتربت أو ربما صارت حالة أقرب إلى «الشَراهَة» لدى الحكومات، سواء كانت في ذلك مضغوطة ومجبرة تحت وطأة ظروف اقتصادية وحياتية، أو كانت مدفوعة بحساباتها الذاتية الناجمة عن قلة الكفاءة والتشبث بالبقاء حماية لمصالح أطرافها قبل شعوبها.
هذا ما يمكن الخروج به كانطباع عام من البيانات الخاصة بتطور نسبة العائدات الحكومية التي نشرتها جامعة الأمم المتحدة مؤخرا، وكما هو موضح بالشكل المرفق فإن هذه النسبة كانت تشكل نحو 19.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في العام 1980، وبحلول العام 2020 كانت النسبة قد ارتفعت الي 44.7%.
تجدر الإشارة في البداية إلي أن أهمية رصد ومراقبة مستوى العائدات الحكومية ونسبتها للناتج المحلي الإجمالي، تنبع من أن الافراط في هذه العائدات يسبب ـ في رأي الكثيرين ـ عواقب وخيمة علي الاقتصاد، سواء علي المستوي المحلي والقطري أو الدولي، لكونه يهمش الاستثمار في رأس المال البشري، مثل التعليم والرعاية الصحية وتشجيع نقل التكنولوجيات والعمليات التجارية، لتحسين الإنتاجية (الناتج لكل عامل)، ويقلل من فرص توفير الحوافز اللازمة للعمل والاستثمار والمخاطرة. من الأمثلة على هذه السياسات؛ خفض معدلات ضريبة الدخل وإلغاء أو خفض التعريفات.
في هذا السياق، يمكن القول أن العائدات الحكومية حول العام راحت تتصاعد بوتيرة سنوية شبه ثابتة خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وكان التصاعد السنوي يتراوح بين 1 و2%، وبحلول العام 1989 كانت النسبة قد ارتفعت الي 28.6%، أما عقد التسعينيات فشكل القفزة الأكبر في العائدات الحكومية، فقد ارتفعت وتيرة التصاعد لتصبح بين 2 و4% سنويا بدلا من 1و 2% خلال عقد الثمانينات، وهو ما حدث فعليا بين العام 1989 و1990، التي تصاعدت فيه العائدات من 28.6% الي 32.6%، وحدث الامر نفسه في العام 1991 الذي قفزت فيه العائدات بالنسبة نفسها لتصبح36.5% في العام 1992، ويظل الامر نفسه يتكرر بصورة أو بأخرى، ولا يحل العام 1999 إلا ونسبة العائدات الحكومية من الناتج الإجمالي العالمي قد كست حاجز الـ 30% وأصبحت فعليا 34% ، ما يعني أن متحصلات الحكومات من جهد وكد وتعب شعوبها بما يربو علي النصف في عشرة سنوات فقط ( من 19.4% عام 1989 الي 44% في العام 1999).
في العام الأول من الألفية الجديدة ( 2000 ـ 2001 ) قفزت عائدات الحكومات من الناتج الإجمالي العالمي الى 48.1%، ثم تراجعت تراجعا طفيفا وبلغت 46.9% خلال عامي 2002 و2003، وبحلول عام 2004، بدأت الموجة الثانية الاشد تكثيفا وتسارعا في تصاعد عائدات الحكومات من الناتج الإجمالي العالمي، حيث تشير الأرقام أنه في غضون السنوات الاربع التالية ( 2004 ـ 2005 ـ 2006 ـ 2007) وصلت عائدات الحكومات الي أعلى ذروة بلغتها خلال الـ 40 عاما الماضية، حينما بلغت 53.3% من الناتج الإجمالي العالمي في العام 2006، وظلت ثابتة علي ذلك تقريبا خلال العامين التاليين 2007 و2008.
تراجعت عائدات الحكومات تراجعا طفيفا في العام التالي 2009، وأصبحت تشكل 52.2% من الناتج الإجمالي العالمي، ثم استقرت عند المستوي المرتفع حتي العام 2014، وطوال هذه السنوات كانت النسبة شبه مستقرة، وتتحرك صعودا وهبوطا بمعدل يدور حول 1% و2%، حتي أنها توقفت في العام 2019 عند 48%، ثم ينتهي بها المطاف عند 44.7% في العام 2020، بنسبة هبوط 4%، أغلب الظن أنها ظهرت بهذه الصورة بسبب النقص في تجميع البيانات من العديد من الدول، كما ذكر التنويه الخاص بذلك من المصدر الأصلي للبيانات، وأيا ما كان الأمر، تظل الملاحظة الأكثر وضوحا في هذه الرحلة، هي أن الحكومات ضاعفت نصيبها من الناتج الإجمالي العالمي بما يقدر بنحو 115% في العام 2020، مقارنة بنصيبها في العام 1980، الأمر الذي يؤكد الفرضية التي ذهبنا اليها في البداية وهي أن الحكومات تميل وربما تستهل التوسع في الجباية من الشعوب، لرفع حصتها من الناتج الإجمالي عاما بعد آخر.
يتعزز هذا الاعتقاد إذا ما نظرنا إلي المصادر التي تحصل من خلالها الحكومات علي نصيبها من الناتج الإجمالي العالمي، فعلي سبيل المثال لا الحصر، يظهر الشكل المرفق أن الإيرادات الضريبية غير المباشرة التي تحصل عليها الحكومات من الضرائب على الدخل والأرباح وأرباح رأس المال، والضرائب على الأجور والقوى العاملة، والضرائب علي الممتلكات كانت تمثل 5.2% من الناتج الإجمالي العالمي في العام 1980، وتصاعدت هذه النسبة الي 11.5 %في العام2004، وظلت عند هذا المستوي حتي العام 2019، قبل ان تنخفض الي 10.5% في العام 2020، ما يعني أن متحصلات الحكومات من الضرائب المباشرة زادت بمعدل يقترب من 133% أيضا خلال فترة الرصد.
يبدو الأمر مشابها من حيث الاتجاه العام فيما يتعلق بالضرائب المباشرة، التي تحصل عليها الحكومة من الضرائب علي السلع والخدمات، والضرائب على التجارة الدولية من صادرات وواردات، فالبيانات تشير إلي أنها كانت عند 5.9% في العام 1980، ثم وصلت ذروتها في العام 2007 حينما بلغت 18.5%، واستقرت عند هذا المستوي حتي العام 2019، قبل ان تنخفض الي 15.4% في العام 2020.
نحصل علي دلالة اكبر علي حالة “الشره” من البيانات الخاصة بالعائدات غير الضريبية، التي تشمل الإيرادات جميع الإيرادات الأخرى التي تجمعها الحكومات والتي لا تصنف على أنها ضريبة أو مساهمة اجتماعية أو منحة، كالرسوم والغرامات والتكاليف الإدارية والدمغات وخلافه، فهذا البند من العائدات بدأ بنسبة قدرها 3.8% من الناتج الإجمالي العالمي في العام 1980، وظل يتصاعد بعد ذلك حتي بلغ 9.8% في العام 2002، ثم 13% في العام 2008، وحافظ علي مستوي مرتفع نسبيا خلال السنوات التالية، وتأرجح بين 12 و11.9%، خلال الفترة من 2009 وحتي 2019، قبل ان ينخفض الي 9.8% في العام 2020، ولا تختلف الأمور كثيرا في البيانات غير المتضمنة في الشكل المرفق، والخاصة بباقي مصادر العائدات الحكومية الأخرى، وهي الضرائب على السلع والخدمات التي تتكون من ضرائب المبيعات وضرائب القيمة المضافة ورسوم الإنتاج المحلي والاستيراد، والضرائب المفروضة على استخراج الموارد الطبيعية.