شَهد مستوى التغيّر في حجم صادرات وواردات البضائع عالمياً تقلُّبات مُتباينة في العقدين الأخيرين، بعضها يُمثل صدمات للتجارة العالمية والأخرى تُمثل استقراراً نسبياً وانتعاش محدود لها، وتبدو العلاقة بين صادرات وواردات البضائع علاقة طردية تسير بشكل ديناميكي، فازدياد الطلب العالمي على البضائع أيّا كان نوعها يدفع بالصادرات إلى النمو والعكس صحيح. وتُشير بيانات منظمة التجارة العالمية (WTO) أن حجم صادرات وواردات البضائع تقلّص 13 مرة بينهم 3 مرات انكماش حاد، مقابل 4 مرات استقرار نسبي و3 مرات انتعاش مرتقب.
ارتفع معدّل التغيّر في حجم تجارة البضائع عالمياً بنسبة طفيفة في عام 2006 بلغت 8.7% للصادرات و8.2% للواردات بعد أن كانت نسبتهما 6.5% و6.6% على التوالي في عام 2005، ثم شهد 3 انكماشات متتالية بلغ أقصاها في عام 2009 ليكون معدّل التغيّر سلبياً بنسبة -11.9% للصادرات و -12.7% للواردات العالمية للبضائع، تزامن هذا الهبوط الحاد وقتئذ مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي شهدها العالم في عام 2008، والتي أدّت إلى إحجام المستهلكين والشركات عن الإنفاق والاستثمار وتباطؤ معدلات الطلب على السلع نتيجة لانخفاض الثقة في الاقتصاد العالمي الذي انكمش بنسبة -2.2% حينها بحسب بيانات صندوق النقد الدولي(IMF). ويُمثل عام 2009 أقصى منحنى الانكماش في حجم صادرات وورادات البضائع عالمياً مقارنة بسنوات الرصد الأخري بين عامي 2005 وحتى 2024.
تبدّلت الأحوال سريعاً في عام 2010 ليشهد معدل التغيّر نمواً وانتعاشاً غير مسبوق في حجم صادرات وورادات البضائع عالمياً، إذ سجل ما نسبته 13.9% للصادرات، و13.8% للواردات، ليعكس تحسنًا كبيرًا في النشاط التجاري العالمي، إذ بدأت العديد من الدول في التعافي وتحقيق نمو اقتصادي، وإزدياد لاستثمارات الأجنبية المباشرة بين الدول وبخاصة في الاقتصادات النامية، وهو ما ساهم بلا شك في زيادة حجم الصادرات والواردات. أعقب هذا الارتفاع انخفاض مرتين متتاليتين في عامي 2011 و2012، ثم استقر نسبياً معدل التغير في حجم صادرات وواردات البضائع للمرة الأولى في الفترة من 2012 حتى 2016 حيث سجّل ما نسبته 2.3% للصادرات و2% للواردات في عام 2012، و2.3% للصادرات و2.4% للواردات في عام 2013، و2.5% للصادرات و2.7% للواردات في عام2014، و2% للصادرات و2.5% للواردات في عام2015، لتكون تلك الفترة هي الأطول والأكثر استقراراً مقارنة بباقي سنوات الرصد.
شًهِد حجم صادرات وواردات البضائع عالمياً سيناريو مشابه لما حدث في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية ولكن هذه المرة بعد عام 2017 الذي ارتفع فيه معدلات التغيّر ليسجل ما نسبته 4.6% للصادرات و5.2% للواردات، لتنكمش تلك المعدلات في السنوات الثلاثة التالية ويبلغ أقصاه في عام 2020 تزامناً مع جائجة كورونا(Covid-19) التي أصابت حجم التجارة العالمية بالشلل نتيجة الإغلاق الكلي والجزئي الذي شَهدهُ العالم آنذاك للحدّ من انتشار العدوى، مما أدّى إلى تقلّص حركة البضائع وتعطيل السلاسل اللوجستية العالمية. وسجّل عام 2020 ثاني أسوأ إنكماش لأداء حجم صادرات وواردات البضائع عالمياً بعد عام 2009، وبلغ مُعدل التغيّر ما نسبته -4.7 للصادرات و -5.3 للواردات ليفقد بذلك مكاسبه السابقة.
تعافَت معدلات التغيّر في حجم تلك الصادرات والواردات في عامي 2021،2022 قبل أن تشهد انتكاسة أخرى في عام 2023 وتسجل ثالث أسوأ انكماش على مدار أعوام الرصد، وربما يرجع هذا الانكماش لتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وتأثّر سلاسل الامداد نتيجة لازدياد التوترات الجيو-سياسية وبخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر في قطاع غزة، ويُضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات الفائدة في العديد من البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم لمكافحة التضخم، غير أن المؤشرات الأولية في عام 2024 تُشير إلى بصيص أمل في تعافي حذر ومرتقب لمعدلات التغيّر في حجم صادرات وواردات البضائع عالمياً. كما هو موضح بالشكل رقم (1).
تباينت كذلك معدلات التغيّر في حجم صادرات وورادات البضائع بحسب القارة أو المنطقة الجغرافية، ووفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية تعرضت أفريقيا لأقصى انكماش لها في عامي 2020 و2017، بينما اشتركت باقي المناطق والقارات في معدلات الانكماش والنمو الذي اعتور العالم عقب الازمات العالمية والتعافي منها. كما هو موضح بالشكل رقم(2).
يرجع الاختلاف في حجم صادرات وورادات البضائع بحسب المناطق الجغرافية أو القارة لأكثر من عامل من بينها معدلات النمو الاقتصادي لكل منها، إذ تميل المناطق ذات معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة إلى زيادة وارداتها من السلع والخدمات لتلبية الطلب المتزايد على الاستهلاك والاستثمار. في المقابل، تميل الدول ذات معدلات النمو المنخفضة إلى زيادة صادراتها لحصول على العملة الأجنبية وتحفيز النمو الاقتصادي. يلعب كذلك مستوى الدخل لبعض المناطق الجغرافية دوراً هاماً في تغيّر معدلات حجم الصادرات والواردات، يضاف إلى ذلك السياسات التجارية التي تنتهجها بعض الدول لا سيما فرضها لرسوم جمركية على الواردات لحماية صناعاتها الوطنية أو تقدم إعانات للمصدرين لتعزيز قدرتهم على المنافسة في الأسواق العالمية، ولعلّ يؤثر أيضاً سعر الصرف على جاذبية الصادرات والواردات، فانخفاض سعر الصرف يضفي جاذبية للمشترين الأجانب، بينما تصبح الواردات أكثر كلفة.
ختاماً؛ تعرضت معدلات التغيّر في حجم تداول البضائع عالمياً لصدامات عديدة خلّفت انكماشاً 13 مرة في سنوات متباينة كان أقصاها بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، والأخرى بعد جائحة كورونا والمرة الأخيرة في عام 2023 نتيجة للصراعات الإقليمية الدائرة، الأمر الذي يبرز التأثر المباشر لحجم الصادرات والواردات عالمياً بالأزمات حتى ولو كانت ذات نطاق محدود.
الرئيسية نشرة رقم عدد يونيو 2024