كتبت: اليجاندرا بوروندا
بتاريخ 2 أكتوبر 2019
يختبئ أكبر قدر من المياه العذبة تحت سطح الأرض في طبقات المياه الجوفية أكثر من أي مصدر آخر بخلاف الطبقات الجليدية، حيث تلعب المياه الجوفية دوراً هاماً تجاه أنهار العالم، من مدينة “سان بيدرو” إلى نهر “الغانج”، حيث تحافظ على جريانها حتى عندما تنخفض مياهها بسبب الجفاف.
لكن في العقود الأخيرة، ضخ البشر تريليونات الجالونات من تلك الخزانات الجوفية، مما أدي الي “جفاف بطيء” لآلاف النظم البيئية للأنهار في العالم، طبقاً للبحث الذي نُشر في مجلة Nature. أما مستجمعات المياه، التي تم استخراج المياه الجوفية منها، فقد تجاوزت بالفعل مرحلة بيئية حرجة تُقدر ما بين 15-21٪، كما يقول الباحثون، إلا أن هذه النسبة قد ترتفع لما بين 40-79٪ بحلول عام 2050. وهذا يعني، طبقاَ لـ “إنجي دي جراف” الباحثة الأولي في الدراسة وعالِمة الهيدرولوجيا في جامعة “فرايبورغ”، أن شُح المياه سينال من المئات من الأنهار والجداول في جميع أنحاء العالم لدرجة تُهدد النباتات والحيوانات. وتضيف أن: “الآثار البيئية قنبلة موقوتة، حتى وإن قمنا بضخ المياه الجوفية الآن، فلن نرى الآثار إلا بعد عشر سنوات أو أكثر، لذا فما نفعله حالياً سيؤثر على بيئتنا عبر سنوات عديدة قادمة “.
صمود المياه الجوفية أمام الحياة العصرية: إن نهر “سان بيدرو” جنوب غرب ولاية “أريزونا” هو آخر نهر منهمر ومتدفق- بدون سد- في جنوب غرب الولايات المتحدة، طالما انتشرت علي ضفافه الطيور المهاجرة، لكنه لم يشهد الأسماك إلا نادراَ، حتي أربعينيات القرن الماضي، حيث بدأت مياه الآبار في الطفو علي سطح المناطق المجاورة وامتصاص المياه النقية الدافئة من طبقات المياه الجوفية في المنطقة. واتضح أن جزءاً كبيراً من المياه المتدفقة عبر النهر لم يكن ناتجاً عن المطر وذوبان الجليد في أعلى النهر، إنما من تلك المصادر الموجودة تحت الأرض. وكلما زادت كمية المياه التي يتم ضخها من طبقات المياه الجوفية، كلما قل تدفق المياه إلى النهر، وعانت الأراضي الرطبة وأشجار خشب القطن والحيوانات والمياه المتدفقة في “سان بيدرو”.
إن المياه الجوفية هي الدعم الخفي للكثير من مناحي الحياة الحديثة. فعلى الصعيد العالمي، يتم ريّ حوالي 40٪ من الغذاء الذي نزرعه بالماء المستخرج من تحت سطح الأرض. لكن العديد من طبقات المياه الجوفية التي تُستخرج منها هذه المياه استغرقت مئات أو حتى عشرات الآلاف من السنين لملئها؛ وقد تكون المياه تسربت بداخلها عبر شقوق في الأرض عندما غطت الطبقات الجليدية العملاقة مدينة نيويورك منذ 20 ألف عام.
والواقع يشير الي أن الكثير من تلك المياه يتم فقده بشكل أسرع بكثير مما يمكن تجديده، مُخلفاً عواقب وخيمة على مياه الشرب ونمو المحاصيل في المناطق التي لا تسقط فيها أمطار كافية. ولكن قبل ظهور هذه التأثيرات بوقت طويل، تتضرر الأنهار والجداول والمساكن المحيطة – وهو ما قد حدث بالفعل.
تقول Eloise Kendy عالمة المياه العذبة في “منظمة الحفاظ علي الطبيعة”: “تخيل طبقة المياه الجوفية مثل حوض الاستحمام المليء بالماء والرمل، ثم تخيل أنك تُكوّن ممراَ صغيراً برفق عبر الجزء العلوي من الرمال، فيمتلئ بالمياه التي تتسرب عبر الرمال إلى “الجداول”. فإذا قمت بضخ القليل من الماء من حوض الاستحمام، سوف يجف هذا الجدول، على الرغم من وجود الكثير من الماء في حوض الاستحمام، وبالتالي تكون قد دمرت الأنهار التي كانت تجري بشكل سليم، لكن لأن الأنهار لا تصرخ ولا تستغيث، فنحن لا نعلم أنها في أزمة.”
الماء هو الحياة، حتى يفني: وقد ألقى الفريق في البحث الجديد، نظرة على المناطق التي يتم فيها استخراج المياه الجوفية عالمياَ بالمعدل الذي تسبب في انخفاض كبير بمستويات المياه في الأنهار والجداول لدرجة تشارف المرحلة الحرجة للبيئية، وهي المرحلة التي تنخفض عندها مستويات المياه لأقل من 90٪ من متوسط معدل التدفق خلال موسم الجفاف، وهو الوقت الذي تكون فيه المياه الجوفية أكثر حيوية لأجل تدفق النهر. يقول “برايان ريختر”، خبير مياه وعالِم في شركة المياه المستدامة، إن تجاوز هذه العتبة لأكثر من ثلاثة أشهر في العام، لمدة عامين على الأقل، يعرض النباتات والحيوانات المعتمدة علي المياه العذبة للخطر. كما قد يكون هناك نضوب ضئيل جداً للمياه في تلك الأوقات الحرجة، إلا أن أثره البيئي شديد”.
وتُعد الفصائل التي تعتمد علي المياه العذبة في الأنهار والجداول التي تجري بشكل سليم، من أكثر الفصائل المهددة بالانقراض في العالم. فقد توصلت “دي جراف” وزملاؤها أن بين 15 -21٪ من مستجمعات المياه التي تضخ المياه الجوفية تجاوزت بالفعل مرحلة الخطر (يتم ضخ ما يقرب من نصف مستجمعات المياه في جميع أنحاء العالم). ومع تفاقم ظاهرة الجفاف في مناطق كثيرة بالعالم نتيجة لتغيُر المناخ، من المرجح أن يزداد شُح المياه الجوفية، ومن ثَمَ الأنهار والجداول، بدرجة أسوأ بكثير.
قد تكون توقعاتهم متحفظة. فقد استخدموا الطلب العالمي على المياه في عام 2010 كمعيار أساسي، وقاموا بنسج نموذج مستقبلي للمناخ خاص بهم لمعرفة كيف يمكن أن تتطور أنظمة شُح المياه الجوفية. ولكن مع تضخم السكان وزيادة الطلب على الغذاء، قد يزداد هذا الشُح لأسباب أخرى غير تغيّر المناخ، يكون مؤداه الإسراع في استغلال مصادر المياه الجوفية.
لكن آثار الضخ الجائر للمياه الجوفية تستغرق سنوات، إن لم يكن عقوداً، حتى تصبح بارزة. توضح “جريتشن ميلر”، عالمة الهيدرولوجيا والمهندسة في جامعة ” إيه وإم، تكساس”، أن التغيُرات في معدلات المطر لها تأثيرات فورية وواضحة على تدفق النهر، فعندما تنهمر الأمطار، غالباً ما تنفجر الأنهار. لكن المياه الجوفية مخفِيَة، حيث تستغرق التغييرات وقتاً أطول لتظهر للضوء، وليس بالضرورة في المكان الذي يحدث فيه الضخ. وهذا ما يجعل قضايا إدارة المخزون الجوفي أكثر صعوبة، لذلك وُضِعت خطط لجزء صغير فقط من مستجمعات المياه لمعالجة المشاكل التي تلوح في الأفق.
إن الأنهار والجداول تعتبر بمثابة “طائر الكناري في منجم الفحم”، كما يقول “ريختر”: “إنها إشارة تعلن استخدامنا للمياه بطريقة غير مستدامة، ومن ثمّ نحن بحاجة إلى إلقاء نظرة فاحصة على تصرفاتنا.”
من موقع National Geographic