%50.4 فقط من الوظائف عالميا تتوافق فيها مستويات التعليم مع متطلبات الوظيفة

جمال محمد غيطاس

تدفع المؤسسات التعليمية ومؤسسات التدريب والتأهيل عالميا طوال الوقت، بملايين الخريجين الحاملين لمؤهلات ومهارات تعليمية وعلمية من مستويات مختلفة، وفي المقابل تعرض سوق العمل ملايين الوظائف التي تتطلب مستويات ونوعيات مختلفة من المستويات التعليمية، وفي هذا السياق تقول بيانات منظمة العمل الدولية أنه كمتوسط عام خلال الفترة من 2012 الي 2019، كانت %50.4 فقط من الوظائف المتاحة بسوق العمل متوافقة مع التعليم المتاح من قبل المؤسسات التعليمية ومؤسسات التدريب، أما الوظائف المتبقية التي تقدر بـ %49.6 فهي متنافرة، لأن مستويات التعليم إما أعلى منها أو أدني منها، كما تبين أنه كمتوسط عام خلال الفترة نفسها كان %53.7 فقط من الموظفين، يملكون مستوي تعليمي يتوافق مع متطلبات الوظيفة التي يشغلونها، والنسبة الباقية من الموظفين التي تشكل %46.3 منهم، يملكون مستوي تعليمي متنافر، لأنه إما أدنى أو أعلى من متطلبات الوظيفة.

عند النظر إلي العلاقة بين التعليم وسوق العمل، يلاحظ أن معظم التقارير والدراسات الخاصة بهذه القضية، قد درجت على تناولها بصورة منفصلة، فالبعض منها يركز على سوق العمل وتوزيعاتها الجغرافية والعمرية والوظيفية، وما تحتويه من تباينات تتعلق بالنمو في الوظائف، مقابل القوى العاملة المتاحة، للحصول على نسب العمالة والبطالة، وأنماط التشغيل وخلافه، والبعض الآخر يتناول قضايا التعليم، من حيث توزيع الخريجين على المستويات التعليمية المختلفة، كالتعليم المتوسط والفني وفوق المتوسط والجامعي وما بعد الجامعي، والتخصصات التعليمية المختلفة، وتفصيلات المؤهلات الدراسية.
من هنا حاول مركز جسور استجلاء العلاقة التفاعلية البينية بين الطرفين، استنادا إلي البيانات الخام الضخمة المدرجة بقاعدة بيانات منظمة العمل الدولية https://ilostat.ilo.org/data، واستخلاص البيانات التي ترصد مستوى التوافق بين التعليم وسوق العمل عالميا وتحليلها.
تبين من التحليل أن البيانات ترصد الظاهرة من خلال مسارين، الأول يستكشف العلاقة بين متطلبات الوظائف المتاحة بسوق العمل، وطبيعة ومحتوى البرامج التعليمية والدراسية والتدريبية المطبقة في المؤسسات التعليمية والتدريبية، أو بعبارة أخرى العلاقة بين «التعليم والوظيفة»، والثاني يستكشف العلاقة بين المستويات التعليمية المختلفة لمن يشغلون الوظائف، ومتطلبات الوظائف التي يشغلونها من حيث المهارات والقدرات، أو بعبارة أخرى العلاقة بين « تعليم الموظفين والوظيفة».
تضمن كل من المسارين ثلاث حالات، الحالة الأولي يتوافق فيها التعليم مع متطلبات الوظيفة، والثانية يكون فيها التعليم أعلى من متطلبات الوظيفة، والثالثة يكون فيها التعليم أدنى من متطلبات الوظيفة.
كشفت تحليلات البيانات الخاصة بالمسار الأول «التعليم والوظيفة»، أن حالة التوافق بين الطرفين، اتخذت اتجاها هابطا خلال الفترة من 2012 إلي 2019، وكان الهبوط طفيفا في عمومه، حيث ظهرت حالة التوافق بين المستوى التعليمي ومتطلبات الوظائف في %48 من الوظائف المتاحة بسوق العمل في العام 2012، ثم بلغت أعلى معدلاتها في العام التالي 2013، حينما سجلت نسبة قدرها %52.6، لتبدأ بعد ذلك مرحلة تذبذب طفيف استمرت حتي العام 2018، وتراوحت خلالها النسبة بين %52 و%50.8، قبل ان تهبط إلى أدني مستوياتها في العام 2019، مسجلة نسبة قدرها %46.8، وبلغ المتوسط العام لها خلال فترة السنوات الثماني%50.4.
قدمت حالة التعليم الأعلى من متطلبات الوظيفة نمطا قريبا مما حدث في حالة التوافق، حيث مالت في عمومها الي الهبوط الطفيف، المصحوب ببعض التذبذب، لكنها من حيث الحجم ظهرت في حوالي ربع الوظائف المتاحة بسوق العمل، وبدأت بـ %25.6 من الوظائف خلال عام 2012، ثم شهدت ارتفاعا طفيفا في العام التالي 2013، حينما ظهرت في %26.6 من الوظائف، ثم شهدت تراجعا قليلا في العام 2014، وسجلت %25.5 قبل أن تعاود الارتفاع الطفيف وتبلغ ذروتها في العام 2015، وتسجل %26.8، وبعدها راحت تهبط بصورة متتالية، لتسجل في النهاية نسبة قدرها 23.8 في العام 2019، بمتوسط عام خلال فترة الرصد بلغ %25.7.
اختلفت الحالة الثالثة وهي التعليم الأدنى من متطلبات الوظيفة، وكان مسارها العام هو الارتفاع الطفيف المصحوب بقدر قليل من التذبذب خلال السنوات الثماني التي شملها التحليل، فوفقا للبيانات ظهرت حالة التعليم الأدنى من متطلبات الوظيفة في %22.9 من الوظائف في عام 2012، ثم هبطت الي %21.2 في عام 2013، ثم عاودت الصعود في 2016 وبلغت %23.3، ثم انخفضت الي %22.7 في العام 2018، ووصلت الى الذروة في العام الأخير 2019 وباتت منتشرة في %24.3 من الوظائف، وبلغ المتوسط العام لها خلال فترة الرصد %23.8.
وفي المسار الثاني الذي يربط بين تعليم الموظفين ومتطلبات الوظيفة التي يشغلونها، تبين أن حالة التوافق دارت حول النصف أو أعلى بقليل خلال فترة الرصد، حيث بدأت بـ %54.5 في العام 2012، وبلغت ذروتها في العام التالي 2013، وكانت %55.5، ثم بعد ذلك تأرجحت بين %5.3.3 و %53.9 خلال 2014 و2018، ثم هبطت لأدني مستوي لها في العام 2019 وبلغت %52.4، وكان المتوسط العام لها خلال السنوات الثماني هو%53.7.
أما حالة الموظفين ذوى المستويات التعليمية الأعلى من متطلبات وظائفهم، فتراوحت نسبتها بين %21.2، وهو أدنى معدل لها وسجلته في العام 2013، و%24.9 وهو أعلى معدل لها، وسجلته في العام 2014، وانتهت في العام 2019 بنسبة قدرها %23.39، بمتوسط عام خلال فترة الرصد بلغ %23.5
تراوحت نسبة الحالة الثالثة والأخيرة وهي الموظفين ذوى المستويات التعليمية الأدنى من وظائفهم بين %21.24 وهو أدني معدل لها وسجلته في العام 2013، و%24.29 وهو أعلى معدل لها وسجلته في العام 2019، وبلغ المتوسط العام لها خلال فترة الرصد %22.6.
تقودنا الأرقام الكاشفة السابقة إلي القول بأن هناك خللا كبيرا وواضحا في العلاقة بين التعليم وسوق العمل عالميا، لأن التوافق والتناغم يحكمان حوالى نصف العلاقات البينية القائمة بين الطرفين، والاختلاف والتنافر يحكمان النصف الآخر أو أقل قليلا، ما يعني أن العالم في حاجة ماسة إلي تغيير النهج الحالي الذي تتبعه العديد من الدول والحكومات في التعامل مع قضايا التعليم وسوق العمل، والقائم على عدم الربط بصورة صحيحة وواقعية بين خطط التعليم، وخطط التنمية والتشغيل، إلى نهج يربط بين الاثنين على مستوي السياسات والإجراءات، وأن يكون الربط عميقا وفعالا، بحيث ينشئ علاقات سببية، سواء طردية أو عكسية، بين الحركة في نوعية وأعداد خريجي التعليم، والحركة في نوعية وأعداد فرص العمل.
وجود هذا الربط أمر ضروري، لأن غيابه ضار بالطرفين وبخطط التنمية معا، وفى النهاية ليس من المنطق، وليس من مصلحة العالم أن يكون الاختلاف والتنافر هما الحالة السائدة بين نصف متعلميه ونصف وظائفه.