وفقا لقاعدة بيانات مركز جسور للتعليم وسوق العمل، التي تتناول أوضاع التعليم العالي وسوق العمل في مصر خلال الفترة من 2013 الي 2018، فإن مؤسسات التعليم العالي في مصر قدمت لسوق العمل حوالي 456 ألفا و851 خريجا سنويا كمتوسط عام خلال تلك الفترة، في حين كان المتوسط العام لفرص العمل الجديدة، التي تم شغلها سنويا من قبل أشخاص يقعون في الشريحة العمرية بين 20 و 30 عاما، ويحملون المؤهلات التعليمية المصنفة علي أنها مؤهلات تعليم عالي قد بلغ 111 الفا و547 فرصة عمل سنويا. ما يعني أن المتوسط العام لعدد الخريجين خلال تلك الفترة، يعادل ما يزيد قليلا علي ضعفي المتوسط العام لفرص العمل، وعمليا تعني هذه الأرقام أن العلاقة بين التعليم وسوق العمل في مصر واقعة في حالة “اختلال واختناق” … كيف؟
حينما نتحدث عن الاختلال، يمكننا القول أن الحالة المثلي للعلاقة بين خريجي التعليم العالي، وسوق العمل تتحقق وتستديم، حينما يكون النقص والزيادة في أعداد الخريجين وفرص العمل متقاربة، ومرتبطة معا ارتباطا طرديا، بحيث أنه كلما زادت أعداد الخريجين، زادت أعداد فرص والعكس صحيح.
لكن شيئا من هذا لم يحدث علي وجه الإجمال في العلاقة بين التعليم العالي وسوق العمل في مصر، بل كان الاختناق والاختلال هو الحالة السائدة، وإن اختلف من عام لآخر، ومن تخصص تعليمي لآخر، ومن قطاع توظيف لآخر، ومن محافظة أو منطقة جغرافية لأخرى.
فالأرقام المتاحة تدل علي أن جميع خريجي التعليم العالي، علي اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم، ودرجاتهم العلمية، يتحركون في مساحة داخل سوق العمل تمثل 16.07% من هذه السوق، والمساحة الشاسعة الباقية التي تزيد علي 83.8%، فهي من نصيب العمال والحرفيين، من حملة المؤهلات غير المصنفة ضمن درجات التعليم العالي، كالابتدائية والإعدادية والثانوية العامة والدبلومات، وغيرها، فضلا عن الأميين الذي لا يعرفون القراءة والكتابة أصلا. وبالتالي فإن سوق العمل المصرية، تمثل ابتداء بيئة خانقة وضيقة، وغير صديقة في معظم الأحيان لخريجي التعليم العالي، وتعني كذلك أن الاقتصاد المصري يعتمد في عمومه علي عمالة خارج نطاق التعليم العالي.
لو اقتربنا من الأرقام أكثر، سنطالع الخطوط الاساسية لحجم هذا الاختلال والاختناق، لنجد أن قمة المعاناة من الاختلال والاختناق تقع بين خريجي كليات التجارة والآداب والحقوق والتربية والمعاهد التجارية، التي تمثل مجموعة الخمسة الكبار، لكون المتخرجين فيها يواجهون حزمة متغيرات صعبة في سوق العمل، فأعدادهم أكبر من الفرص المتاحة، ليس فقط لنقص الفرص، ولكن لكون تركيبة بيئة العمل نفسها لا تضع هذه النوعية من التخصصات في درجة مناسبة بسلم أولوياتها، هذا فضلا عن المزاحمة علي الفرص، التي تأتيهم من غير خريجي التعليم العالي، ففي قطاع الإدارة والتجارة بلغ المتوسط العام السنوي لأعداد الخريجين 98 الفا و133 خريجا سنويا، فيما سجلت فرص العمل نموا سلبيا، يقدر بفقد 27 الفا و649 وظيفة سنويا، وفي قطاع الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية كان المتوسط العام السنوي لعدد الخريجين 42 الفا و316 خريجا، والمتوسط العام السنوي لفرص العمل المضافة له سنويا الفا و679 فرصة سنويا،
وهنا يمكن القول أنه ليس من المقبول تنمويا واجتماعيا ايضا أن تكون الطاقة الاستيعابية لهذه المجالات بضعة آلاف من فرص العمل سنويا، ثم يجري تضخيم هذه القطاعات بمنظومة بالتعليم العالي، لتضخ بسوق العمل عشرات الآلاف سنويا، تختنق بهم السوق، مخلفة مشكلة بطالة حادة، أو سوء توزيع لهؤلاء الخريجين، لينتهي بهم المطاف في مجالات لم يعدوا أو يؤهلوا لها من الأصل، فتصبح غالبيتهم موارد بشرية متبددة بلا طائل.
وفي قطاع الزراعة نجد اختلالا معكوسا، حيث يحتل قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، المرتبة رقم واحد في سوق العمل المصرية من حيث عدد فرص العمل، إذ بلغ المتوسط العام السنوي لقوة العمل الإجمالية به خلال فترة الدراسة 14 مليونا و504 الفا و615 شخصا، لكنه يعد من القطاعات عالية الفقر ، من حيث عدد خريجي التعليم العالي العاملين به، إذ بلغ المتوسط العام السنوي لعدد فرص العمل التي شغلها خريجو التعليم العالي 225 الفا و552 فرصة فقط.
وبالطبع فإنه ليس من المقبول تنمويا ومجتمعيا أن يكون عدد قوة العمل الإجمالية في قطاع الزراعة بالملايين، وفرص العمل الجديدة التي يوفرها سنويا بمئات الآلاف، ثم تترك منظومة التعليم الجامعي الزراعي ضعيفة منكمشة عاما وراء الآخر، فلا تقوي سوي علي ضخ بضعة آلاف، ففي هذه الحالة تكون العلاقة بين الجانبين مختلة، وتولد نقصا حادا في عدد الخريجين مقابل عدد فرص العمل، ما يضع عبئا وآثارا وتداعيات سلبية عديدة، علي خطط التنمية بهذا القطاع.
تتسع رقعة الاختلال والاختناق لتشمل نوعا آخر هو الاختلال والاختناق الجغرافي، حيث كشفت الأرقام عن اختلال واضح في التوزيع الجغرافي لمؤسسات التعليم العالي التي تضخ الخريجين، والمنشآت والمؤسسات بقطاعات التوظيف المختلفة التي توفر فرص العمل، فعلي صعيد توزيع المؤسسات التعليمية، ـ وجد أن أربعة محافظات فقط، يوجد لديها الأنواع الأربع من مؤسسات التعليم العالي، وهي الجامعات الحكومية، والجامعات الخاصة، والاكاديميات، والمعاهد العليا والفنية، وهذه المحافظات هي القاهرة والاسكندرية والجيزة والدقهلية، بينما حرمت باقي المحافظات من نوع أو أكثر من المؤسسات التعليمية، فعلى سبيل المثال لم يكن هناك خريجي أكاديميات في 19 محافظة وهم الغربية، اسيوط، القليوبية، المنوفية، بنى سويف، سوهاج، كفر الشيخ، البحيرة، المنيا، الإسماعيلية، دمياط، الفيوم، السويس، الأقصر، شمال سيناء، الوادي الجديد، مطروح، البحر الأحمر، جنوب سيناء. بينما لم تخل محافظة واحدة من خريجي الجامعات الحكومية، كذلك حرمت 19 محافظة من خريجي الجامعات الخاصة، حيث أن تلك الجامعات ليست متاحة سوى في 8 محافظات، هي القاهرة والإسكندرية والجيزة والدقهلية والقليوبية وبني سويف و شمال وجنوب سيناء.
وقد كان من الطبيعي أن يترافق مع ذلك، أو بنجم عنه، اختلال مماثل وربما بالدرجة نفسها في توزيع الخريجين وفرص العمل جغرافيا علي المحافظات المختلفة، حيث تبين الأرقام أن أكثر من نصف الخريجين، أو تحديدا 51% يتركز في اربع محافظات فقط، هي القاهرة والجيزة والاسكندرية والدقهلية، وتتوزع النسبة الباقية 49%، علي 23 محافظة، بنسب تتراوح بين أقل من 1% و6%، كما يتركز 40% من فرص العمل في ثلاث من المحافظات الاربع نفسها، وهي القاهرة والجيزة والاسكندرية، أما باقي فرص العمل التي تمثل نسبة 60% فتقاسمتها باقي المحافظات الاربع والعشرين.
خلاصة ما يمكن الخروج به من الأرقام السابقة، أن خريجي التعليم العالي في مصر ظلوا يتمددون ويزيدون خلال فترة الدراسة، فيما كانت سوق العمل الخاصة بهم ـ الضئيلة جدا مقارنة بسوق العمل الاجمالية ـ تميل للانكماش والتقلص مع الوقت، حتي بلغ المتوسط العام لأعداد الخريجين الجدد سنويا، ما يزيد على ضعف المتوسط العام لأعداد فرص العمل الجديدة، وكان هذا هو المكمن الحقيقي لحالة الاختلال والاختناق.