ملاحظات قانونية حول مراقبة مليار و800 مليون حساب نشط على الفيسبوك يوميا ؟

سليمان عبد المنعم

في مواجهة الجدل والانتقادات التي لا تتوقف بشأن المحتوى غير القانوني على منصة فيسبوك كثر الحديث مؤخراً عن المحكمة الداخلية التي أنشأتها شركة فيسبوك لوضع المعايير الخاصة بحذف المحتوى غير القانوني على منصة التواصل الاجتماعي الأشهر في العالم بالنظر لكونها تضم وفقاً لأحدث الأرقام المنشورة في التقرير الأخير لفيسبوك نحو 2 مليار و500 مليون حساب شخصي. وربما لم يكن يفكر أحد في لحظة إطلاق منصة فيسبوك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي أن العالم سيواجه بعدها بعشر سنوات تقريباً إحدى أعقد المشكلات القانونية وأكثرها إثارة للجدل الاجتماعي والثقافي والسياسي وليس القانوني فقط. تلك هي مشكلة الاستخدام غير المشروع لمنصات التواصل الاجتماعي، ففي كل اختراع تكنولوجي كبير توجد نعمةٌ بقدر ما توجد نقمةٌ في آن معاً. أسهمت شبكة إنترنت عموماً ومنصات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص في إتاحة التواصل اللحظي بين سكان الأرض بلا حدود أو حواجز أو قيود أو تأخير لتتجاوز فكرتي الزمن والوقت ويصبح جزء كبير، بل كبير جداً من الوظائف والخدمات وتداول الأفكار يتم بين البشر في اللحظة ذاتها دون حاجة إلى الانتقال عبر المكان.
لكن هذه المنجزات الهائلة قد أتاحت في الوقت نفسه فرصة ارتكاب جرائم متنوعة وربما جسيمة حتى أنه لم يعد مجدياً اليوم حصر عدد هذه الجرائم التي يُتصوّر أن تقع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو شبكة إنترنت بصفة عامة. فمعظم الجرائم التقليدية أصبح من الوارد ارتكابها أو التحريض على ارتكابها عبر شبكة إنترنت ووسائل التواصل مثل التحريض على القتل والعنف والإيذاء، والسب التشهير، ونشر المعلومات المضلّلة، والتحريض على الكراهية العنصرية، وانتهاك حرمة الحياة الخاصة، وإفشاء الأسرار، والابتزاز، والسرقة، والاحتيال، والتزوير، والاتجار في البشر، واستغلال الأطفال، والاعتداء على الملكية الفكرية، وتدمير الممتلكات والبني التحتية المعلوماتية والتي لا تقل في خطورتها عن تدمير الممتلكات المادية، بالإضافة بطبيعة الحال إلى الجرائم الإرهابية بكل أشكالها.
منبع الإشكالية القانونية وكثير من الإشكاليات الأخرى فيما يتعلق بالمحتوى غير القانوني من صور ومنشورات ومقاطع فيديو أن فيسبوك تتيح إنشاء حسابات مُجهّلة (بضم الميم وتشديد الهاء) لا يلتزم فيها صاحب الحساب بإثبات هويته الحقيقية بأي سند مُعترف به قانوناً لإثبات الهوية. تدافع فيسبوك عن ذلك بمقولتي حرية التعبير واحترام خصوصية أصحاب الحسابات على منصتها. الحجة الظاهرة إذن تبدو أخلاقية وحقوقية لكن يصعب رغم ذلك نزع الاعتبارات التجارية والربحية عن النقاش الدائر لا سيّما حين نعرف أن عوائد شركة الفيسبوك من الإعلانات وحدها قد بلغ نحو 70 مليار دولار في العام 2019 فقط!! لا تخلو السياسات التي تتبعها شركة فيسبوك بشأن مراقبة وحذف المحتوى غير القانوني من الانتقادات. وقد تعهدت فيسبوك بمراجعة وحذف ما يتم الإبلاغ عنه من مضمون غير قانوني مخالف لمعايير الاتحاد الأوربي في غضون 24 ساعة، ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي فإن المدة اللازمة لتحديد وحذف مقاطع الفيديو التي تنتهك قواعد الفيسبوك في البث المباشر قد هبطت إلى 12 ثانية فقط!
هذا التطور الهام المتواصل في مكافحة المحتوى غير القانوني كان نتيجة للوقائع المأساوية التي فيها ارتكاب بعض أفعال العنف الشنعاء بما فيها القتل بطريق البث المباشر على الشبكة العنقودية، وبرغم هذا ما زالت الإشكاليات القانونية تتواصل وتتعقّد. صحيحٌ إن إنشاء مجلس أعلى داخل فيسبوك من الحكماء والخبراء والحقوقيين تكون بمثابة محكمة لدى الفيس بوك تتمتع باستقلالية عن الشركة لوضع معايير وضوابط المحتوى غير القانوني الواجب حذفه تعد خطوة كبيرة تسعى من خلالها فيسبوك لمعالجة الانتقادات التي تعرضت لها في الفترة الأخيرة لا سيّما وأن بعض هذه الانتقادات قد خرجت من دول غربية ذات نظم ديموقراطية وحقوقية كبرى مثل ألمانيا وانجلترا، لكن لا ينبغي الإفراط في التفاؤل والاعتقاد بأن تشكيل هذا المجلس أو المحكمة سيمثل حلاً نهائياً وحاسماً لظاهرة المحتوى غير القانوني التي أصبحت تؤرق العالم.
ولعلّ أهم الإشكاليات التي ما زالت تطرحها ظاهرة المحتوى غير القانوني على شبكة انترنت عموماً ومنصات التواصل الاجتماعي بوجه خاص تتمثل في عدم وجود إطار قانوني عالمي لمكافحة ظاهرة هي نفسها عالمية بقدر ما تعتبر الشبكة العنقودية فضاء إلكترونيا عابراً للحدود. لهذه الإشكالية تجليات شتى أبرزها التفاوت الحاصل بين النظم القانونية المجلية في معالجتها لمفاهيم قانونية واجتماعية مثل مفهوم حرية التعبير، ومفهوم الآداب العامة، ومفهوم النظام العام. هناك أيضاً واقع عدم وجود اتفاقية دولية حتى الآن تحظى بقبول عالمي أو شبه عالمي لمكافحة الجرائم السيبرانية ومن بينها بالطبع تلك التي تُرتكب عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
أحد الموضوعات القانونية الجديرة بالنقاش حالياً هو كيفية معالجة الضرر الذي يترتب على نشر محتوى غير قانوني وهل يعني ذلك الاكتفاء بتقديم طلب من الطرف المتضرر إلى فيسبوك لحذفه أم أنه يمكن أن يتم بقرار من القضاء المحلي في دولة ما. في هذا السياق أصدرت محكمة العدل الأوربية بتاريخ 3 أكتوبر 2019 حكماً يلزم شركة فيسبوك بمراقبة وحذف أي محتوى غير قانوني وفقاً لأحكام الاتحاد الأوربي وذلك في جميع أنحاء العالم. واعتبرت المحكمة أن الالتزام بتنفيذ طلبات حذف محتوى يشمل ما هو منشور في جميع بلدان العالم بما فيها الدول التي لا تعتبر مثل هذا المحتوى غير قانوني. وقد انتقدت شركة فيسبوك هذا الحكم معتبرة أن تنفيذ قرار محكمة واحدة بإزالة محتوى في جميع بلدان العالم سيضر بحرية التعبير وحقوق الرأي ويقوّض المبدأ المتبع منذ فترة طويلة بأنه لا يحق لأي دولة منفردة أن تفرض قوانينها بشأن التعبير عن الرأي على دول أخرى.
هناك أخيراً إشكالية نظام عمل وحدود ولاية ما يُطلق عليه محكمة الفيسبوك التي أُعلن عنها والتي لا يتضح حتى الآن برغم كل الحديث الدائر عنها ما هي على وجه التحديد قواعد عملها، وحدود صلاحياتها، والإطار الذي ينظم هذه الصلاحيات، وكذلك مدى إلزامية ما يصدر عنها من قرارات. إذا طبقنا المثل أو المبدأ القائل بأن الغرم بالغنم فإنه على فيسبوك التي تربح كثيراً أن تواجه كل هذه المعضلات بل وأن تدفع أحياناً!! ولهذا قامت الشركة مؤخراً بدفع 52 مليون دولار كتعويضات لمراقبي المحتوى الذين كلفتهم بهذه المهمة إذ رفع بعضهم دعاوى تعويض ضد فيسبوك نفسها عن الأضرار النفسية التي لحقت بهم نتيجة مشاهدة مناظر مروّعة لقتل أشخاص والاعتداء على أطفال. جيدٌ أن تنشئ فيسبوك محكمة داخلية يتمتع أعضاؤها باستقلالية عن الشركة نفسها في أداء عملهم بشأن وضع معايير المحتوى، لكن ما زال مبكراً تقييم هذه التجربة في ظل جدل فكري وفلسفي وإلكتروني لا يتوقف، ومشهد قانوني يتسم بالسيولة ربما يحتاج لسنوات أخرى حتى تتبلور مفاهيمه وينعقد توافق عالمي حول كيفيه مواجهته.