في فجر اليوم الأول من العام 2024 كسر عدد سكان العالم حاجز الثمانية مليارات، وفى تلك اللحظة أيضا كان عدد من عصف بهم نقص التغذية الناجم عن ظاهرة الجوع قد كسر هو الآخر حاجز المليار و280 مليون شخص، يمثلون الـ 16% من سكان العالم الذين أكدت الإحصاءات إصابتهم بنقص التغذية، والمؤسف أن ما يتجاوز الـ 550 مليون شخص من هؤلاء يضربهم المستوى المرتفع جدا من نقص التغذية، لأن الإحصاءات نفسها تقول أن ما يتجاوز الـ 43% من المصابين بنقص التغذية يقعون ضمن فئة المصابين بالنقص المرتفع جدا.
لا يتوقف الأمر عند قسوة هذه الأرقام، لأن الإحصاءات التاريخية الخاصة بنقص التغذية عالميا تشير إلي أن لحظة ميلاد العام الجديد، كانت في جوهرها لحظة انتكاسة، علي الأقل من حيث النسبة المئوية من سكان العالم التي تعاني نقص التغذية الناجم عن الجوع، ففي العام 2000 كانت نقص التغذية يعصف بنحو 19.4% من سكان العالم، ثم تراجعت النسبة الي 16.6% في العام 2008، ثم واصلت تراجعها الي 14.7% في العام 2015، قبل أن تعود النسبة للارتفاع مجددا بحلول اليوم الأخير من 2023 لتصل الي 16% مسجلة انتكاسة مؤسفة عن الاتجاه الهبوطي الذي ساد منذ بداية العام 2000 وحتى 2015.
لعبت المحنة الغذائية المزمنة التي تعاني منها قارة افريقيا، وتحديدا منطقة جنوب الصحراء الكبرى، الدور الأكبر في هذه الانتكاسة، حيث بدا ان عودة نقص التغذية الناجم عن الجوع إلي قوته، تجسدت بشكل أكبر في هذه المنطقة، بعدما ارتفعت النسبة بها من 20.9% في العام 2015 إلى 22.9% في العام 2023،في حين شهدت مناطق شرق آسيا والمحيط الهادي وشرق أوروبا وآسيا الوسطي وغرب أوروبا استمرار الهبوط في نسب الإصابة بنقص التغذية الناجم عن الجوع منذ بداية 2000 وحتي 2023، أما منطقة الشرق الأوسط التي تضم شمال افريقيا وجنوب آسيا فكانتا أقرب إلي النمط السائد بإفريقيا جنوب الصحراء، حيث عاد نقص التغذية بهما للارتفاع بعد العام 2015، وإن كانت العودة اقل حدة مقارنة بمنطقة جنوب الصحراء.
جغرافيا … تعد منطقة افريقيا جنوب الصحراء الكبرى الموطن الأكبر لنقص التغذية الناجم عن الجوع في العالم، حيث تبلغ نسبة الإصابة به 22.3% من إجمالي عدد السكان، تليها منطقة جنوب آسيا، التي تبلغ بها نسبة الإصابة 16.5%، ثم شرق آسيا والمحيط الهادي 16.3%، ثم أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي 12.3%، ثم الشرق الأوسط وشمال افريقيا 10.8%، وأخيرا غرب أوروبا التي تسجل ادني مستويات المعاناة من نقص التغذية الناجم عن الجوع، ونسبة تصل الي 4.6% من السكان.
ثمة جانب آخر دال علي عمق وحدة أزمة نقص التغذية، وهو مستوي نقص التغذية السائد عالميا، حيث تشير الإحصاءات إلي أن نقص التغذية في أغلب حالاته من النوع المرتفع جدا، الذي يعاني فيه المصابون من النقص الشديد في التغذية، ويعاني من ذا النوع 43% من إجمالي من يعانون نقص التغذية، فيما يعاني 29.8% من النقص المرتفع، و18.1% من النقص المتوسط، و9.3% من النقص المنخفض و4.3% من النقص المنخفض جدا.
بالنظر بصورة اكثر تفصيلا لمعدلات انتشار المستويات المختلفة من نقص التغذية في كل منطقة من مناطق العالم علي حدة، يتبين أن النوع المرتفع جدا يحتل المرتبة الأولي في ست مناطق من أصل سبع، ويختفي في منطقة واحدة هي غرب أوروبا، ويبلغ أقصاه في منطقة افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث بلغ الي 44.7% من إجمالي المصابين بنقص التغذية، وبعيدا عن منطقتي افريقيا جنوب الصحراء التي تجسد قمة الازمة، وغرب أوروبا التي تجسد قاع الأزمة، يلاحظ أن هناك تقاربا فى درجات أو مستويات نقص التغذية داخل المناطق الأخرى وهي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وامريكا اللاتينية وجنوب آسيا وشرق آسيا والمحيط الهادي وشرق أوروبا وآسيا الوسطى.
لو تابعنا التدقيق في توزيع الأرقام الخاصة بكل مستوى من المستويات الخمسة في مناطق العالم السبع، سنجد أن نقص التغذية المرتفع للغاية يبلغ أقصاه في جنوب آسيا، مسجلا نسبة انتشار قدرها 46.4% كمتوسط عام بين إجمالي المصابين بالنقص، وتأتي منقطة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي في المركز الثاني بنسبة انتشار تقل بفارق ضئيل عن جنوب اسيا وتبلغ 45%، ثم منطقة إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة انتشار 44.7%، ثم كل من شرق آسيا والمحيط الهادي وشرق أوروبا بنسب متقاربة للغاية تبلغ 40.6 %، و40.4% على التوالي، ثم الشرق الأوسط وشمال افريقيا بنسبة 33.4%، بينما لا يختفي النقص المرتفع جدا كلية في غرب أوروبا.
يختلف نمط انتشار المستوي المرتفع قليلا، حيث تتقدم منطقة إفريقيا جنوب الصحراء لتحتل رأس القائمة بمعدل انتشاره قدره 30.2%، تليها شرق أوروبا وآسيا الوسطى وجنوب آسيا وشرق آسيا والمحيط الهادي بنسب 29.3% 29.1% و29% علي التوالي، ثم أمريكا اللاتينية والكاريبي والشرق الأوسط وشمال افريقيا بـ 27.5% و27.8% علي التوالي، ولا يظهر المستوي المرتفع أيضا في غرب أوروبا.
عند الوصول الي المستوى المتوسط، نجد الحالة متقاربة اكثر، فمعدلات الإصابة به تتراوح بين 19.1% في حدها الأقصى بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و17% في حدها الادني بمنطقة جنوب آسيا، ثم نسب بقية المناطق الأخرى المحصورة بين هذين الحدين، إذ تبلغ 17.4% و17.6% و18.7% و18.9% في كل من أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والمحيط الهادي وافريقيا جنوب الصحراء وشرق أوروبا علي التوالي.
أما الانتشار المنخفض فيسجل نسب انتشار تقع جميعها دون الـ 12%، ويبلغ أعلى مستوى له في جنوب آسيا بنسبة انتشار 11.3%، وادني مستوي له في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة 6.8%، ثم يسجل أول ظهور لحالات نقص التغذية في غرب أوروبا بنسبة انتشار قدرها 7.4%.
يمضي الانتشار المنخفض جدا علي المنوال نفسه، ويسجل نسب انتشار تقل في جميع المناطق عن 6%، وتأتي منطقة جنوب اسيا على رأس القائمة بنسبة انتشار قدرها 5.7%، ثم بقية المناطق الأخرى بنسب انتشار محصورة بين 4% في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا و 4.5% في منطقة شرق أوروبا وآسيا الوسطي، وللمرة الثانية تظهر غرب أوروبا كمنطقة إصابة بمعدل انتشار 4.1%.
نخلص من تركيبة الأرقام السابقة إلى أن نقص التغذية الناجم عن الجوع يعد هما عالميا، لكنه هم يتوحش ويضغط اكثر ويصل لذروته في المناطق النامية والفقيرة بالأساس، بينما يبدو خفيفا قليل الانتشار ويكاد لا يكون مؤثرا في الدول المتقدمة والغنية، وبعدما سجل تراجعا ملحوظا خلال الفترة من عام 2000 الي عام 2015، عاد ليرتفع وتقوى شوكته ويزداد حدة خلال الفترة من 2015 وحتي 2023، ما يعني أن قدرة العالم علي تحجيمه والسيطرة عليه أخذة في التراجع.
الرئيسية نشرة رقم عدد فبراير 2024