بعد أن انخفض %40 في 2020، يمُر الاستثمار الأجنبي المباشر بآخر محطّات النمو السلبي بحلول 2021، بنسبة – يتوقعها تقرير الاستثمار العالمي 2020 – تتراوح بين 5 إلى %15، ليُحقق بذلك مُعدل انخفاض – ربما غير مسبوق في الألفية الحالية – لا يتجاوز إجماليه على مستوى العالم 900 مليار دولار فقط، بعد أن بلغ 1.54 تليريون دولار في 2019. بذلك ينخفض حجم الاستثمار الأجنبي المباشر %50 تقريباً في العامين 2020 و2021 مجتمعيّن، قبل أن يتعافى ويقفز إلى 1.1 تليريون دولار في 2022، ثم يعود تدريجياً حتى يصل إلى معدلات ما قبل جائحة كورونا، إلا أن هذه العودة تظل مرهونة بالقضاء على تلك الجائحة.
بيد أن التراجع في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الناجم عن تداعيات فيروس كورونا المستجد يعد هو الأسوأ بنسبة %25 تقريباً مقارنة بالانخفاض الذي لحق الأزمة المالية العالمية في 2009، التي بلغت تدفقاته آنذاك 1.2 تليريون دولار، وسيمثل المستوى المتوقع لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في 2021 انخفاضاً بنسبة %60 عن عام 2015 الذي بلغ فيه حجم الاستثمار 2 تليريون دولار مقابل أقل من 900 مليار دولار في 2021.
لا يخفى على البيان الدور المحوري الذي يلعبه الاستثمار الأجنبي المباشر بالنسبة للدول المتقدمة عامة، والنامية خاصة، إذ يُمثل جزءً لا يُستهان به بالنسبة لمدخولات الدولة فضلاً عن القفزة التي يُحدثها في معدلات النمو الاقتصادي بالتزامن مع نمو معدلاته، كما أنه مصدر لتعويض العجز في الادخار المحلي وتحقيق زيادة في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي فأحد الأهداف الرئيسية لاستقطاب رأس المال الأجنبي هو إقامة مشروعات إنتاجية في كافة المجالات الصناعية والزراعية والخدمية التي تهدف إلى إنتاج سلع وخدمات ذات ميزة تنافسية للتصدير وتكون مؤهلة للقبول بالأسواق العالمية كما أن توفر رأس المال يسمح بالتوسع في الإنتاج وتنوع المنتوج وتحسين جودته، أضف إلى ذلك رتق فجوة الاستثمارات الداخلية المطلوبة والمستعصي على الدولة تنفيذها في ظل تقليص اعتماد الدول النامية على المديونية والمساعدات الخارجية إليها. ومستقبلاً ربما تكون الدول النامية هي الأكثر تأثراً بهذا الانخفاض حيث أشار تقرير الأونكتاد (UNCTAD) – مستقبل آفاق الاستثمار الأجنبي المباشر عالمياً، في ظل أزمة كورونا – أن قيمة إعلانات المشاريع الاستثمارية التأسيسية – وهي مؤشر لاتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر المستقبلية – بلغت 358 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2020، شهدت الاقتصادات النامية انخفاضا بمقدار(%-49)مقارنة بالاقتصادات المتقدمة (%-17) عنه في عام 2019، مما يعكس قدرة محدودة على طرح حزم الدعم الاقتصادي، فضلاً عن انخفاض عدد صفقات تمويل المشاريع العابرة للحدود المعلنة بنسبة %25 مما يشير إلى أن الانزلاق لا يزال يتسارع نحو الأسفل حتي 2022 التي تعد سنة الانطلاق الجديد.
توقعات تقلص الاستثمار الأجنبي المباشر في المستقبل القريب ترتبط بمخاوف بداية موجة ثانية لجائحة فيروس كورونا المستجد، وربما موجة ثالثة في ظل ضبابية حول إتاحة لقاحات هذا الفيروس، التي ربما تعاني منه الدول النامية بعض الشيء، الأمر الذي قد يتزامن مع اتخاذ تلك الدول سياسات الإغلاق جزئياً أو كلياً مرة أخرى. بناء عليه تكون تلك الدول أكثر حرصاً على اتباع مناخ جاذب للاستثمار الأجنبي المباشر لا سيما العمل على تخفيض أسعار الفائدة لديها حيث أن ارتفاع تكلفة التمويل يؤدي إلى عزوف المستثمرين عن ضخ استثمارات الجديدة والاتجاه لبدائل أخرى منها الاستثمار في أدوات الدين المحلي التي تضمن لهم فوائد ثابتة وبدون مخاطر، فضلاً عن التخلص من البيروقراطية وتبسيط الإجراءات المتعلقة بالتخليص الجمركي واستخراج التراخيص اللازمة لاستكمال المشاريع الاستثمارية وغيرها من الإجراءات التي تجعل الدولة أكثر تنافسية أمام المستثمر الأجنبي. وبالتبعية لتداعيات كورونا فخريطة الاستثمار الأجنبي المباشر من المتوقع أن تجذب قطاعات بعينها مثل التعليم والخدمات الصحية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة رؤوس أموال أكبر مستقبلاً.
لا غرو أن انحسار حجم الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي ينعكس على الوضع المحلي بالسلب، ذلك رغم المعدلات الجيدة التي حققتها مصر في الآونة الأخيرة حيث استحوذت منفردة على %20 من إجمالي حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في قارة أفريقيا البالغ 54.4 مليار دولار وفق تقرير الاستثمار العالمي 2020، ليتجاوز مجموعه 9 مليار دولار في 2019 بزيادة %11 عن العام الذي سبقه. كما سجلت أرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر 126.6 مليار دولار في 2019 مقابل 73.1 مليار دولار في 2010 و20 مليار دولار في 2000. إذ تضاعفت الأرصدة 6 مرات متتالية في عشرين عاما فقط. بناء عليه تظل مصر أكبر مُستقبل للاستثمارات الأجنبية المباشرة في إفريقيا ربما بفضل الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة التي قامت بها الحكومة وأسهمت في حدوث استقرار اقتصادي كبير حازت من خلاله على الثقة الدولية.
حقيقة أن الاستثمار الأجنبي المباشر يمكن أن يساهم في تشغيل قدر من العمالة ويمكن أن ترتفع بوجوده أرقام الناتج المحلي الإجمالي والصادرات. كما يمكن له أن يساهم في استغلال الثروات الطبيعية بما يملكه من تكنولوجيا متقدمة. ولكن ربما تظل هناك تساؤلات مطروحة نابعة من مبدأ الاستغلال الأمثل للاستثمار الأجنبي المباشر، ألا وهي؛ ما هو نوع الاقتصاد الذي يزداد فيه دور رأس المال الأجنبي؟ وما هي القطاعات التي يهتم بالدخول إليها؟ وهل يقوم بإنشاء صناعات جديدة نحتاج إليها أم انه يقوم بالاستحواذ على المشروعات المحلية القائمة (سواء المشروعات المطروحة للخصخصة أو المملوكة أصلا للقطاع الخاص) وعلى ما تمكنت من خلقه من أسواق لمنتجاتها وخدماتها؟ وهل يمكن للاستثمار الأجنبي أن يساهم في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية؟ وما هي حدود التطابق أو التقارب في الأهداف بين رأس المال الأجنبي القادم إلى مصر وبين الأهداف الاقتصادية للمجتمع ولخريطة مصر المستقبلية؟