تتفاوت تقديرات المستقبل السكاني للعالم بحسب تقديرين أولهما متوسط يميل إلى التفاؤل بنجاعة جهود السيطرة على الانفجار الديموجرافي في الدول المكتظة الفقيرة، وتقدير آخر مرتفع يبدو متشائماً من هذه الناحية. والملاحظ أن تقرير الأمم المتحدة عن آفاق مستقبل السكان في العالم في عام 2015 World population Prospects يتبنى التقدير المتوسط. ربما لا تحظى تقديرات المستقبل السكاني للعالم في عام 2050 بالطابع اليقيني برغم أن التقرير هو نتاج عمل خبراء دوليين رفيعي المستوى وصادر عن جهة هي الأكثر تخصصاً ودراية في العالم.
وارد بالطبع وجود هامش للتفاوت في التقدير المستقبلي لكنه يظل هامشاً محدوداً ومتعارفاً عليه لدى أهل التخصص. وبصفة عامة فإن عدد سكان العالم الذي يبلغ اليوم بحسب موقعworldmeter 7 مليار و910 مليون نسمة يتوقع أن يصل في العام 2050 إلى 9 مليار و730 مليون نسمة (هامش التفاوت في التقدير لا يزيد على 400 مليون نسمة أي ما يمثل نسبة خطأ تتراوح حول %4 فقط).
والواقع أن الأرقام بذاتها ووحدها لا تفصح عن كل شيء، فالأرقام في النهاية معطيات صماء، إنما الأكثر أهمية وخطورة هو ما تكشف عنه هذه الأرقام من دلالات وما يترتب عليها شئنا أم أبينا من تداعيات.
في شأن المستقبل السكاني للعالم العربي بعد ثلاثة عقود من الآن تتجلّى المفاجآت تباعاً. فالبلد العربي الوحيد من بين كل الدول العربية قاطبة الذي سيشهد انخفاضاً في عدد سكانه هو لبنان الذي يُتوقع أن ينخفض فيه عدد السكان في عام 2050 بنسبة %4.1، بل ربما تسهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها هذا المجتمع الحيوي النشيط وما تفضي إليه من حركة هجرة إلى الخارج لأن يتأكد هذا الانخفاض السكاني إن لم يزداد. وستشهد باقي الدول العربية الأخرى زيادة سكانية تتفاوت من دولة إلى أخرى بحسب ما وُرد في عدد مارس 2020 من هذه نشرة رقم.
وإجمالاً فإن عدد سكان العالم العربي الذي يبلغ حالياً 436 مليون نسمة سيرتفع إلى 686 مليون نسمة في عام 2050 أي بعد 29 عاماً من الآن.
ما يُلفت الانتباه بشدة في المستقبل السكاني للجنس البشري في عام 2050 أن التقديرات المتوقعة لأكثر دول العالم تقدماً ورفاهة اقتصادية ستشهد انخفاضاً مقارنةً بعدد سكانها الحالي. ففي أوربا الغربية سينخفض عدد سكان ألمانيا بنسبة 8- %، وكذلك سينخفض عدد سكان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وسينخفض عدد سكان الصين بنسبة طفيفة وهي الدولة التي طالما عاشت هاجس الانفجار السكاني. وكذلك اليابان بنسبة %15-، وروسيا الاتحادية بنسبة %10-. المفاجأة أن أكثرية دول شرق ووسط أوربا ستشهد في ظل هذه التقديرات المتوقعة نسبة انخفاض سكاني كبير مثل بلغاريا %28-، ورومانيا %22-، وأوكرانيا %21-، وبولندا %14-. المفاجأة الأخرى أن هناك دولاً غربية مهمة ومؤثرة ستعرف على العكس ظاهرة نمو سكاني ملحوظ وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا إذ سوف تشهد بحلول عام 2050 نسبة زيادة سكانية متوقعة بلغ %21+ في أمريكا، و%15+ في انجلترا، و%11+ في فرنسا. بالطبع سيكون لدى أهل التخصص ما يقدمونه من تفسيرات وشروح لهذا التفاوت في المستقبل السكاني لأكبر دول العالم انخفاضاً أو زيادةً لكن ماذا لدينا من شروح وتفسيرات لكون أكثر مجتمعات الأرض فقراً ومعاناة معيشية ستصبح عما قريب هي الأكثر اكتظاظاً سكانياً؟ وكيف أنه في ظل التقديرات المتوقعة لعام 2050 سيشهد العراق نسبة نمو سكاني %133+، والسودان %100+، واليمن %74+، ومصر %64+، والجزائر %40+، والمغرب %29+؟
وجه آخر من المفاجآت التي يحفل بها تقرير آفاق السكان في العالم يتعلق بالمتغيرات المتوقعة في عام 2050 بحسب الشرائح العمرية للتركيبة السكانية في الكثير من بلدان العالم. وبدون الدخول في تفصيلات هذه المتغيرات السكانية (ويمكن الاطلاع عليها بالرجوع إلى التقرير نفسه) فإنها تكشف بجلاء عن مستقبل كهولة سكانية للمجتمعات الغربية واليابان والصين وروسيا مقابل فورة شبابية لمعظم إن لم يكن كل المجتمعات العربية والإسلامية والإفريقية والهند. أهمية إن لم تكن خطورة مسألة الكهولة السكانية لا تقتصر فقط على آثارها الاقتصادية والإنتاجية وقوة العمل ولكنها تشمل أيضاً تداعيات غير مباشرة على الصعيدين السياسي والاجتماعي لا سيما في المجتمعات التي ستشهد ظاهرة الفورة الشبابية أي الزيادة السكانية الكبيرة في عدد النُشّء والشباب بالنسبة لإجمالي عدد السكان وهي الوجه العكسي لظاهرة الكهولة السكانية. وهو الأمر الذي تجلّى بوضوح في حركات الاحتجاج الشعبي للشباب في أكثر من بلد عربي في عام 2011.
في مقابل الانخفاض المتوقع لعدد السكان في الكثير من المجتمعات الغربية يوجد زيادة لافتة في عدد سكان المجتمعات الإسلامية، وهي زيادة يتوقع أن تصل في عام 2050 لأن يصبح عدد المسلمين في العالم 2 مليار و660 مليون نسمة. ما هو مهم وربما مقلق أن هذا الانخفاض المتوقع للنمو السكاني في المجتمعات الغربية والتصاعد السكاني في المجتمعات الإسلامية يوقظ الأساطير المؤسسة لصراع الحضارات التي تنبأ بها من قبل صمويل هينجتون في كتابه الشهير. فمقولة الصراع ترتكز في أحد أسبابها إلى المخاوف من تفاوت المعدلات السكانية. وإذا أُضيف إلى هذا المشكلات والأزمات الناشئة عن ظاهرة الهجرة غير النظامية من دول الجنوب الفقيرة إلى دول الشمال الغنية فإن المخاوف تتزايد.
تزداد القضية السكانية تفاقماً وتعقيداً بفعل تقاطعات ظواهر أخرى معها مثل الإرهاب والفقر والبطالة والقلاقل والنزاعات المسلحة الأهلية في بعض الدول العربية. ربما يمكن لتعاون دولي صادق في مجال التنمية الدولية، وتعميق حوار الشمال والجنوب، وطرح خطاب إنساني جديد يحل فيه التفاهم محل مقولات الصراع.. ربما يمكن لكل هذا أن يخفف من الهواجس الناشئة عن مستقبل السكان في العالم في عام 2050.
في نهاية المطاف فإن تقرير الأمم المتحدة حول آفاق السكان في العالم وبخلاف ما يزخر به من إحصاءات وأرقام يضعنا كأمة عربية وجهاً لوجه أمام أسئلة وجودية كبرى، لن يكون أولها سؤال التحديات الاقتصادية وغياب التكامل الاقتصادي العربي، ولن يكون آخرها سؤال المخاطر السياسية التي تهدد الخرائط الجيوسياسية للدول العربية في عالم تتسارع أحداثه وتتصارع متغيراته.