ما يقرُب من مليون درجة علمية فوق جامعية “دبلوم، ماجستير، دكتوراه” حصل عليها مصريون من الجامعات والأكاديميات المصرية والأجنبية في عقدٍ واحدٍ ما بين عامي 2009-2018، بحسب التعبئة والإحصاء (الكتاب الإحصائي السنوي-التعليم)، وهو ما متوسطه 100 ألف درجة علمية عُليا سنوياً.
يبدو أن هناك تضخماً مضّطرداً بات جلياً في أعداد الحاصلين على هذه الدرجات العلمية العُليا الثلاث. 47 ألفا و 240 هو عدد تلك الدرجات التي مُنحت للمصريين في عام 2009، تضخّمت هذه الأعداد بنسق تصاعدي في ال10 سنوات المرصودة لتتراوح الزيادة المضطردة بين 6 إلى 8 آلاف درجة تُمنح سنوياً حتي بلغ عددها 68 ألفا و465 درجة في 2012، قفزت تلك الأعداد في الثلاث سنوات اللاحقة أكثر من الضعف لتبلغ ذروتها في عام 2016 وتصل إلى157 ألفاً و980 درجة، قبل أن تتراجع في العامين الأخيرين إلى أقل من 120 ألف درجة علمية، إلا أنها لا زالت تزيد على العام الأول في العقد محل الرصد بقرابة 4 أضعاف.
لم تتساو أعداد الدرجات العلمية فيما بينها من حيث النوع، فأكثرها كان من نصيب دبلومات الدراسات العليا والتي حصدها 746 ألفا و551 باحثاً، أما أقلّها عدداً كان لدرجة الدكتوراه بمجموع 63 ألفا و421 درجة، ثم درجة الماجستير التي تجاوز عددها 145 ألف درجة، الدرجتان العلميتان الأخيرتان (الماجستير والدكتوراه) أغلبها تمنح من خلال رسالة أو أطروحة تتسم بالأصالة ولكن في حقيقة الأمر لا توجد إحصائية لتوزيع هذا العدد من الرسائل والأطروحات على مجالات العلوم المختلفة سواء كانت علوم طبيعية أو علوم بحته أو علوم اجتماعية، كما لا يتضح مدى مساهمة هذه الاطروحات العلمية في حركة التنمية والتقدم رغم أهمية البحث في هذه الجزئية.
يظهر كذلك نوع من التباين فيما يتعلق بأعداد الدرجات العلمية الثلاث من حيث الجامعات، فجامعة القاهرة على سبيل المثال تحتوي على 29 كلية منحت 86 ألفا و43 درجة في الـ10 سنوات المرصودة، بينما جامعة الإسكندرية منحت كلياتها الـ 24 عدد 66 ألفا و55 درجة، في المقابل حصد 14 ألفا و803 باحثاً فقط على درجات علمية عُليا من جامعة الازهر وهو عدد أقل بنسبة %83 مما منحته جامعة القاهرة وأقل من %77.5 مما منحته جامعة الإسكندرية رغم أن عدد كليات جامعة الازهر 87 كلية أي ما يزيد على ضعفي جامعة القاهرة وأكثر من ضعفي جامعة الإسكندرية!
ظاهرة التضخم في منح الدرجات العلمية وبخاصة رسائل وأطروحات الماجستير والدكتوراة قد تكون إيجابية إذا كان التضخم نوعياً، وقد تكون عكس ذلك إذا كان تضخمها مجرد تضخماً عددياً، وسِمة النوعية في تلك البحوث ترتبط بأصالتها وجدّتها وتميّزها، فهل تتسم رسالات الماجستير وأطروحات الدكتوراة في العالم العربي بالأصالة أم يعتريها التكرار والنقل والاقتباس؟
هذا التساؤل جدّ خطير، إذ يعكس هوية التفكير العربية، وما إذا كان العقل العربي تكرارياً أم خلاقاً ومبتكراً، ولبحث حقيقة هذا الأمر يتعيّن بداية حصر كافة الرسالات التي نوقشت في فترة زمنية محددة وليكن في الـ50 سنة الماضية، ثم رقمنتها في مرحلة ثانية لتتشكل لدينا قاعدة بيانات ثريّة، أما المرحلة الثالثة فهي مخصّصة للدراسة والتنقيب عن نِسب الاقتباس ومدى التشابه في الفكرة والمضمون مُقابل نسبة الأصالة والابتكار، إذ ربما تدهشنا الأرقام حينئذ ونتكشف حقيقة غائبة تائهة بين حجم الرسالات التي أصبحت تناقش بشكل شبه يومي تقريباً.
لا تخلو هذه المهمة من عراقيل عدّة في مراحلها الثلاث (الرصد، الرقمنة، التحليل)، لعلّ أهمها صعوبة التشبيك بين المؤسسات الجامعية في الدولة الواحدة، وبين الدول العربية فيما بينها، لحصر دقيق يشمل كافة الرسالات التي نوقشت في الفترة الزمنية المرصودة. ولعلً المشروع الذي يعكف عليه منذ ثلاثة أعوام «مركز جسور للدراسات والاستشارات» وهو «مشروع الدليل العربي للبحوث الاجتماعية» ما يمكن أن يعتبر نواةً لمنصة إلكترونية عربية تفاعلية لحركة البحث العلمي الأكاديمي بالنسبة لأطروحات الماجستير والدكتوراه، وربما غيرها مستقبلاً.
أما فيما يتعلق بالرقمنة فيكشف الواقع عن مدى ضحالة المحتوى الإلكتروني وتضاربه، فعلى سبيل المثال يتضمّن «دليل الفهرس العربي الموحد» عدد 128 ألفاً و566 رسالة وأطروحة متنوعة لكافة الدول العربية بداية من عام 1908 حتى 2021، ورغم ما يستهدفه الدليل من حصر الإنتاج الفكري العربي في قاعدة بيانات قياسية واحدة شأنه شأن بقية قواعد البيانات العربية إلا أن بيانات الرسائل العلمية لديه تتضاءل مقارنة ببيانات «دار المنظومة» في الفترة الزمنية ذاتها والتي بلغ عددها 146 ألفا و773 رسالة وأطروحة في شتّى المجالات لكافة الدول العربية، في المقابل تتبدّى الفجوة بجلاء إذا ما علِمنا أن عدد الرسالات التي نوقشت في مصر منفردة هو 571 ألفا و854 رسالة وأطروحة في الفترة ما بين 1940 حتي 2021، أي ما يقارب 4 أضعاف أيٍّ من قاعدتي البيانات سالفتي الذكر التي تشمل الدول العربية جميعها، وفي فترة زمنية أقل 32 عاماً، بحسب قاعدة بيانات «اتحاد مكتبات الجامعات المصرية»، أما ما قبل ذلك لم يتم أرشفته إلكترونياً وهو أحد العراقيل الأخرى التي تتخلّل عملية الحصر وهي أن هناك رقما لا زال مطموساً لا نعلمه لكونه ورقياً إلى الآن.
تحليل هذا الكم الكبير من البيانات المتعلقة بالرسالات والأطروحات على وجه الخصوص في دول العالم العربي يجيب بلا أدنى شك على التساؤل المتعلق بمدى تحقق النوعية في البحوث العربية، ليس هذا فحسب وإنما يُبرز كذلك حجم الفجوة بين الشق الأكاديمي والواقع العملي، أو حقيقة الدور الذي يلعبه البحث العلمي في الارتقاء بالواقع المجتمعي من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية كذلك، كما تبدو أهمية هذه المعالجة من زاوية أخرى، في الحدّ من الفساد المرتبط بالبحث العلمي المُعتمد على النسخ واللصق من رسالات أخرى، إذ من السهل بما كان تكشّف هذا الأمر من خلال محركات البحث العادية على الإنترنت من ناحية فضلاً عن تيسير مهمة المطابقة باستخدام برامج الاقتباس من ناحية أخرى.