للاقتصاد الإبداعي مفهومًا ناشئًا يُعبر عن التفاعل بين الإبداع والثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا في عالم معاصر تهيمن عليه الصور والأصوات والنصوص والرموز، وتعد الصناعات الإبداعية اليوم من بين أكثر القطاعات ديناميكية في الاقتصاد العالمي، ويعتمد الاقتصاد الإبداعي على مجموعة من السلع والخدمات صنفتهم “الأونكتاد” إلى أربعة صنوف وهم الترُاث والإعلام والفنون والإبداعات الوظيفية، وبالتالي يدخل ضمن هذا النوع من الصناعات كل من الأزياء والأفلام والتليفزيون والنشر والبحث والتطوير والتصوير والبرمجيات وغيرها، ويُتوقع أن يُسهم الاقتصاد الإبداعي بـ 985 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2023، بعد أن نمى من 208 مليارات دولار في 2002 إلى 509 مليارات في 2015، أي أكثر من الضعف خلال 13 عاماً، وسيُمثل 10 %من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قبل حلول 2030 بعد أن كان يمثل 3% فقط منه في 2021.
تتربّع الإمارات على عرش الدول العربية من حيث صادرات السلع الإبداعية بحسب مؤشر الابتكار العالمي 2021 الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو)، حيث استحوذت تلك الصادرات على 7.2% من إجمالي التجارة لديها، تلك النسبة وضعت الإمارات عالمياً في الترتيب الـ6 من بين 132 دولة صُنّفت بالمؤشر، تلتها في الترتيب عربياً تونس التي استحوذت صادراتها من السلع الإبداعية علي ما نسبته 2% من إجمالي تجارتها إلا أنها حلّت في الترتيب الـ 30 عالمياً، وجاءت مصر في الترتيب الثالث عربياً والـ40 عالمياً بنسبة 1.2% من إجمالي التجارة لديها، أما الدول العربية الأخرى تراوحت نسبة صادراتها من السلع الإبداعية ما بين 0.0% و 0.9% فقط من إجمالي تجارتها غير أن أعلاهم كانت الأردن بنسبة 0.9% والبحرين 0.8% ليحتلّا الترتيب الرابع والخامس عربياً، ثم لبنان 0.6% وعُمان بنسبة 0.4%، واستحوذت صادرات السلع الإبداعية في كل من السعودية وقطر على نسبة0.2%، و0.1% في كل من الكويت والمغرب من إجمالي التجارة في كل دولة، وتذيلت القائمة عربياً وعالمياً كل من الجزائر واليمن، وخرج عن التصنيف الدول العربية السبعة المتبقية كما هو موضح بالشكل رقم(1). بذلك تستحوذ الإمارات مُنفردة على أكثر من 50% مما تُصدّره الدول العربية المُصنّفة في مؤشر الابتكار من سلع إبداعية والذي بلغ في مجموعه 13.8% من إجمالي تجارتها.
حصّة المنطقة العربية من صادرات السلع الإبداعية ربما تسترعي الإنتباه خاصة إذا ما قورنت بصادرات مناطق جغرافية أو دول أخرى، فعلى سبيل المثال استحوذت صادرات السلع الإبداعية في المكسيك على 10.4% من إجمالي التجارة فيها، أما جمهورية التشيك بلغت تلك الصادرات فيها ما نسبته 11%، وهما دولتان متماثلتان في وضعهما الاقتصادي لبعض الدول العربية، لتُصدّر هاتين الدولتين أكثر مما تُصدّره 14 دولة عربية بـ 35% من السلع الإبداعية تقريباً، أما منطقة اليورو ومجموعها 19 دولة بلغت نسبة صادراتها من السلع الإبداعية 27.3% من إجمالي التجارة فيها، وهو ما يزيد على ضعف ما تُصدّره الدول العربية المُصنّفة.
تبرُز أهمية الاقتصاد الإبداعي بصفة عامة، وصادرات السلع الإبداعية كمؤشر فرعي بصفة خاصة في قدرة الدولة على خلق الفرص التي تعتمد على الفكر والابتكار والإبداع بُغية تحقيق أهداف التنمية وتعظيم مقدّراتها، وإيماناً بأهمية ذلك أعلنت الأمم المتحدة عام 2021 السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة.
كما أن تصدير الدول العربية هذا النوع من الموارد الإبداعية له دوره في التأثير على الدول الأخرى بما يُحقق مصالح الأولى وتظهر من خلاله بالشكل الملائم الذي يدعم شوكتها الخارجية فضلاً عن المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي تعود عليها، بصيغة أخرى تُعد صادرات الدولة من السلع الإبداعية أحد مظاهر قوتها الناعمة التي تعزز مكانتها الدولية، وبالاطلاع على مؤشر القوة الناعمة لعام 2022 الصادر عن مؤسسة “Brand Finance” البريطانية نجد ثمة تماثلاً في ترتيب دولة الإمارات ،على سبيل المثال، التي حلّت فيه في المرتبة الأولي عربياً وهو الترتيب ذاته في مؤشر صادرات السلع الإبداعية، هذا التزامن بين المؤشرين ليس معناه بالضرورة أن أحدهما شرطاً لتحقق الآخر بقدر ما هو أصبح ضرورة يتأثر به ويؤثر فيه، وذلك لاختلاف منهجيتهما فمؤشر القوة الناعمة يعتمد في قياسه لكل دولة على 7 معايير وهم الأعمال والتجارة، الحوكمة، العلاقات الدولية، التراث والثقافة، التعليم والعلوم، الاتصال والتواصل، استطلاع رأي خبراء. أما مؤشر السلع الإبداعية يعتمد على نسبة صادرات كل دولة من تلك السلع بالنسبة لإجمالي التجارة فيها. وهو في حد ذاته أحد ركائز معيار التراث والثقافة في مؤشر القوة الناعمة.
ولعلّ من الأهمية بمكان أن نجيب على هذا التساؤل: كيف نُنمّي صادراتنا الإبداعية في وطننا العربي؟ لا غرو أن المنطقة العربية مُكتظّة بموروث ثقافي مُلهم وتاريخ عريض من التراث والسينما والأدب والفنون والعمارة يتجددّ بتجددّ الزمان ويُحدَّث باستمرار إلا أنه يحتاج إلى منظومة تسويق فعّالة لتظهر في الأفق وتكون محلاً للتداول والتجارة من أبرزها المهرجانات العالمية والفعاليات الدولية، فضلاً عن ذلك أصبح هناك ضرورة مُلحّة في توجيه الاستثمارات نحو المشروعات الثقافية العملاقة من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز الاستفادة بوسائل التكنولوجيا الحديثة ودمجها في تلك السلع الإبداعية لا سيما في صناعات الأزياء والأفلام والرسم والنحت والموسيقى وغيرها. كما أن التعويل على تدريب المواهب في مراحل مُبكرة وتعميم أفضل الممارسات ونماذج الأعمال للمبدعين مسلكاً آخر لزيادة القدرة الإنتاجية للسلع الإبداعية للدول العربية. أخيراً تتكامل وسائل تنمية وتعزيز صادرات السلع الإبداعية مع ضرورة وجود حزمة من التشريعات والقوانين الحديثة تحفظ حقوق الملكية الفكرية وتصون حرية الإبداع، وتحمي مناخ حقيقي وفعال للابتكار.