برغم المقولة الشهيرة إن الأرقام لا تكذب، فإن للأرقام قراءات مختلفة يُستخلص منها بالضرورة دلالات وتفسيرات مغايرة. ومن هنا يبدو الرقم أحياناً حقيقة عددية صماء تحتاج إلى عملية تدوير للزوايا دون النظر إليها من زاوية واحدة فقط. ولعلَ القوائم والتصنيفات الخاصة بضحايا فيروس كورونا المستجد (covid 19) والتي تصدر عن منظمة الصحة العالمية أو جامعة جونز هوبكنز الأمريكية أو موقع worldmeters الشهير تعد نموذجاً للأرقام التي تحتاج لنظرة تكاملية تعتمد عدة معايير وليس معياراً واحداً للتصنيف، لأن كل معيار، برغم أهميته في ذاته، إنما يعكس جانباً من الظاهرة. وحدها منهجية المعايير المتعددة يمكن أن تقدم تفسيراً أكثر شمولاً. وبالتالي سنفتقر إلى هذا الشمول في قراءة ظاهرة فيروس كورونا المستجد بالاستناد مثلاً إلى معيار مطلق إجمالي حالات الإصابة في كل دولة دون تكملته بمعايير أخرى مثل معيار عدد حالات الوفاة، أو نسبة حالات الإصابة لكل مليون نسمة، أو عدد حالات الشفاء. هنا قراءات ثلاث بشأن الدلالات النوعية للأرقام الخاصة بضحايا هذا الفيروس الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له من قبل، على الأقل من حيث سهولة ومدى انتشاره.
وفقاً لقراءة أولى فإن المعيار الأول الأكثر تداولاً واستقطاباً للاهتمام الإعلامي لتصنيف دول العالم بحسب إجمالي حالات الإصابة لا يعكس بدقة درجة تفاقم الإصابة أو مستوى الأضرار الناشئة عنها. فالدول الثماني الأولى في تصنيف worldmeters بحسب معيار عدد حالات الإصابة هي على التوالي 1- الولايات المتحدة الأمريكية 2- أسبانيا 3- إيطاليا 4- فرنسا 5- ألمانيا 6- بريطانيا 7- الصين 8- إيران. لكن إذا أخذنا بمعيار عدد الوفيات (الذي يعبر عن درجة تفاقم الفيروس) فإن التصنيف سرعان ما يتغيّر لتحل ألمانيا في التصنيف التاسع (2945 حالة وفاة) بدلاً من التصنيف الخامس وفقاً لإجمالي حالات الإصابة. وتبدو ألمانيا في وضع أفضل بكثير من الدول الغربية الأخرى إذ يبلغ عدد الوفيات فيها 15% فقط من عدد الوفيات في إيطاليا، و13% من عدد الوفيات في أسبانيا، و11% من عدد الوفيات في أمريكا. و27% من عدد الوفيات في بريطالنيا.
لا يعني هذا التفاوت الملحوظ بين ألمانيا ودول غرب أوربا والولايات المتحدة الأمريكية سوى أن نظام الرعاية الصحية الألماني يبدو أكثر نجاعة في أوربا من حيث إمكاناته، وسرعة استجابته، وتنظيم استقبال المصابين بالفيروس، وتوظيف أجهزة الهندسة الطبية ولوجستيات الإدارة الصحية بصفة عامة. فألمانيا تمتلك نحو 40 ألف سرير عناية مركّزة. ووفقاً لتقرير مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني فإن ألمانيا تمتلك 34 سرير عناية مركّزة لكل مائة ألف نسمة مقابل 26 سريراً في الولايات المتحدة، و10 أسرّة فقط في أسبانيا و9 في إيطاليا و14 في كندا. والأرجح أن تكون هذه الأرقام قد تغيّرت قليلاً في الفترة الأخيرة بفعل اضطرار الدول المنكوبة إلى تكريس إمكانات أكبر لزيادة عدد هذه الأسرّة، وتشغيل مصانع لإنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي. يُضاف لما سبق التفوق الألماني الذي مكّنها حتى الآن من إجراء مليون و317 ألف اختبار لفحص الإصابة بالفيروس لتكون بذلك أفضل ثاني دولة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي استطاعت إنجاز 2 مليون و833 ألف فحص، وذلك مقابل 333 ألف فحص في فرنسا و352 ألف فحص في بريطانيا و600 ألف فحص أسبانيا.
وقد تساءلت صحيفة the sun البريطانية منذ أيام عن سر هذا التفوق الألماني التكنولوجي الذي يمكّنها من إجراء 80 ألف فحص لفيروس كورونا المستجد في اليوم الواحد بينما تقوم بريطانيا بإجراء 8 آلاف فحص يومي فقط أي بنسبة 1/10 من القدرة الألمانية. والتفوق الألماني لا يظهر فقط في توافر عدد أسرّة العناية المركزة وأجهزة التنفس الاصطناعي بأكثر مما يوجد في بريطانيا أو غيرها من دول أوربا ولكن أيضاً في القدرة على إظهار نتائج الفحوصات في وقت أسرع من قريناتها الأوربيات. والأهم هو سرعة اتخاذ القرار في ألمانيا حيث يتيح النظام الفيدرالي الألماني للمختبرات حرية اجراء التحاليل والفحوصات اللازمة على عكس النظام المركزي البريطاني، ناهيك عن فكرة سياسة مناعة القطيع التي اتبعتها بريطانيا في بداية ظهور الوباء الفيروسي ثم عدلت عنها لكن بعد فوات شهر تقريباً مما فوّت على بريطانيا فرصة المبادرة وسرعة رد الفعل في التعامل مع الوباء على نحو ما فعلت ألمانيا.
مؤدى القراءة الثانية أن التصنيفات المتواترة للدول الأكثر تأثراً بفيروس كورونا المستجد يتم فيها التركيز بشكل أساسي على إجمالي حالات الإصابة أو الوفاة بشكل مطلق وبأكثر من التركيز على نسبة هذه الحالات إلى عدد السكان في الدولة. ولعلّ هذا المعيار النسبي هو الأكثر تعبيراً عن درجة تفاقم الوباء الفيروسي ومستوى الضرر الناشئ عنه لأن الاحتكام فقط إلى معيار إجمالي حالات الإصابة أو الوفاة لا يعطي صورة حقيقية حين يُغفل تفاوت الوزن السكاني بين الدول أحياناً بدرجة هائلة. وبتطبيق هذا المعيار النسبي نكتشف مثلاً أن نسبة الإصابة بالفيروس في الصين هي 57 إصابة لكل مليون نسمة، وفي أسبانيا 3360 إصابة لكل مليون نسمة، وفي فرنسا 1986 إصابة لكل مليون نسمة، والولايات المتحدة 1617 إصابة لكل مليون نسمة، وفي ألمانيا 1502 إصابة لكل مليون نسمة. بل إن نسبة الإصابة ترتفع في بعض الدول قليلة السكان لتصل في لوكسمبورج إلى 5224 إصابة لكل مليون نسمة، وفي أيسلندا إلى 4985 إصابة لكل مليون نسمة. هذا يعني أن الأخذ بمعيار نسبة الإصابة قياساً إلى عدد سكان الدولة يمكن أن يغيّر التصنيف العالمي بشكل كبير، فالصين التي تحتل الترتيب السابع في إجمالي حالات الإصابة سوف تهبط إلى الترتيب 117 عالمياً بحسب نسبة حالات الإصابة إلى عدد السكان. والولايات المتحدة سوف تهبط بدورها إلى الترتيب العشرين بدلاً من الترتيب الأول، وهو ما يعكس صورة أقل قتامة عن الوضع فيها.
أما القراءة الثالثة استناداً إلى معيار عدد حالات الشفاء المتعافين من الفيروس في الدول الأكثر إصابة به فتقود إلى استخلاص نتائج مختلفة تعطي صورة مغايرة عن درجة التفاقم النوعي للإصابة. وبإعمال هذا المعيار يتغيّر تصنيف الدول إذ تصبح الصين هي الدولة ذات النتيجة الأفضل عالمياً على الإطلاق (78 ألف حالة شفاء من إجمالي عدد 82 ألف إصابة) تليها أسبانيا في ثاني أفضل ترتيب (62 ألف حالة شفاء من إجمالي 166 ألف إصابة) ثم ألمانيا في الترتيب الأفضل الثالث (60 ألف حالة شفاء من إجمالي 127 ألف إصابة).
ربما تقود هذه القراءات المختلفة إلى رسم صورة نوعية أخرى تكون أكثر تعبيراً عن درجة فداحة أو جسامة الإصابة بفيروس كورونا المستجد دون الاقتصار على مطلق إجمالي حالات الإصابة فقط. وابتداء من هنا سيكون للمتخصصين في علوم الفيروسات والمناعة وفي مجال الطب والرعاية الصحية دورهم الكبير في استخلاص ما يجب من دلالات نوعية ورسم ما يلزم من سياسات صحية.