احتشدت مواقع رصد جائحة كورونا بالكثير من الأرقام منذ بداية انتشار فيروس كوفيد-19 وحتي الآن. وكانت أشهر وربما أهم هذه المواقع هي موقع World Meter وموقع جامعة جون هوبكنز الأمريكية وكذلك موقع منظمة الصحة العالمية. وتضمنت هذه المواقع العديد من المؤشرات الخاصة برصد فيروس كورونا المستجد، لكن كان الملاحظ أنها تعتمد في تصنيف الدول علي مؤشر إجمالي عدد الإصابات بصرف النظر عن المؤشرات الأخرى، وبالتالي تتصدر ترتيب دول العالم في أعلي هذه الجداول، الدولة التي سجل فيها أكبر عدد من الإصابات، ثم تأتي بعدها الدول صاحبة الأرقام الأقل وهكذا، حتي نصل الي الدولة متذيلة التصنيف. ولكن السؤال هو ما إذا كان لمؤشر إجمالي عدد الإصابات من الأهمية ما يجعله المؤشر الذي بناءً عليه يتم ترتيب دول العالم؟ الواقع أن هذا المؤشر وحده لا يعكس بذاته درجة تفاقم ظاهرة فيروس كوفيد-19، لأن هذا المؤشر لا يمكن تفسيره إلا علي ضوء مؤشر آخر هو أعداد المصابين الذين تعافوا من الإصابة بالفيروس. وعلي سبيل المثال فقد ظلت الصين، دولة منشأ الفيروس، تتصدر ترتيب دول العالم في قواعد البيانات الثلاث الأكثر ذيوعاً (ورلدميتر وجون هوبكنز ومنظمة الصحة العالمية) لعدة أسابيع طويلة لأنها سجلت في البداية أعلي معدلات الإصابة. وفي أول مايو 2020 علي وجه التحديد، كانت الصين تسجل 82.874 حالة إصابة. أما حالات التعافي من الإصابة فقد بلغت في الوقت ذاته 77.642 حالة، وبالتالي أصبح الفارق بين الرقمين 5.232 حالة إصابة فقط، وهو عدد ضئيل إذا ما قورن بدول أخرى كان معدل انتشار كوفيد-19 فيها متصاعداً وكارثياً مثل أسبانيا وإيطاليا. ففي أسبانيا بلغ مطلق حالات الإصابة في الفترة ذاتها (أول مايو 2020) 242.988 حالة إصابة، مع حالات تعافي بلغت 142.450، فأصبح الفارق بينهما 100.538 حالة إصابة فقط، و الملاحظة ذاتها يمكن رصدها في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
ما سبق ذكره من أرقام يعني أنه لابد من مقارنة الرقمين معاً (حالات الإصابة وحالات التعافي) لكي نستخلص المؤشر الفعلي لمدى تفاقم ظاهرة كوفيد-19. وفي أمثلة الدول السابق ذكرها لم تكن نسبة التعافي الكبيرة مقارنة بالإصابات الكثيرة أيضاً سوي مؤشر فعلي علي كفاءة المرافق الصحية والطبية.
بخلاف نسبة التعافي التي تمثل مؤشراً فعليا علي كفاءة النظام الصحي في الدول الأكثر تضرراً بفيروس كوفيد-19، فإن هناك مؤشرات آخري بخلاف أعداد الإصابات ونسب التعافي تعكس الي حد كبير وبشكل فعلي درجة تفاقم الجائحة في دول العالم، ورغم ذلك فما زال تصنيف دول العالم يعتمد علي إجمالي عدد الإصابات ويتم ترتيب الدول وفقاً لهذا المعيار. ولعل أهم مؤشر فعلي يعبر عن درجة تفاقم انتشار فيروس كوفيد-19 علي أرض الواقع هو عدد الوفيات من ناحية، ونسبة الإصابات والوفيات مقارنة بعدد السكان من ناحية أخرى. لو أخذنا بمؤشر عدد الوفيات في ذروة الجائحة (أول مايو 2020)، فإن الصين كانت تحتل المركز 11 عالمياً بحالات وفاة تبلغ 4.633 حالة، وبعد عشرة أشهر تقريباً (15 فبراير 2021) أصبحت الصين، منشأ الوباء، تحتل المركز 84 عالمياً بحالات وفاة قدرها 4.636. أما دولة مثل ألمانيا فقد سجلت 6.708 حالة وفاة في أول مايو 2020، وبعد عشرة أشهر تقريباً (15 فبراير 2021) قفزت حالات الوفاة الي 65.949. فهل يعني ذلك أن الصين قد حققت بالفعل هذا النجاح المذهل في السيطرة علي الجائحة مقارنة بألمانيا أم أن المسألة تتعلق بشفافية المعلومات؟
في بداية الأسابيع والشهور الأولي لاندلاع جائحة كوفيد-19 كان ثمة اعتقاد بأن الدول الأكثر تضرراً هي الدول التي يتمتع بها الأفراد بهامش واسع من الحريات الفردية جعلهم لا يعبأون كثيراً بتعليمات السلطات بالإغلاق والتباعد مثل إيطاليا وأسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى، وبالمقابل كان ثمة اعتقاد مواز بأن الدول ذات السلطات القوية والمجتمعات المنضبطة سلوكياً، كانت هي الدول الأقل تضرراً. تجلَي ذلك في دول مثل الصين واليابان والكوريا الجنوبية. إذا أخذنا اليابان وكوريا الجنوبية، وهما دولتان أسيويتان قريبان جغرافياً من الصين، فإن اليابان مثلاً سجلت 430 حالة و فاة في أول مايو 2020، أحتلت بها آنذاك المركز 31 عالمياً، وبعد عشرة أشهر ونصف، أى في 15 فبراير 2021، سجلت اليابان 6.952 حالة وفاة، احتلت بها المركز 37 عالمياً. أما كوريا الجنوبية، فقد سجلت 248 حالة وفاة في أول مايو 2020 (المركز 36 عالمياً) قفزت الي 1.527 حالة و فاة في 15 فبراير 2021، لتحتل بذلك المركز 86 عالمياً، ولتصبح ربما الدولة صاحبة قصة النجاح الأبرز في مكافحة جائحة كوفيد-19 والسيطرة عليه.
والنجاح الملحوظ الذي حققته كوريا الجنوبية واليابان والصين يطرح التساؤل السابق الإشارة اليه، عما إذا كان ثمة ارتباط بين القبضة القوية لسلطة الدول وقيم الانضباط والطاعة لدي المجتمع وبين السيطرة علي تفاقم الجائحة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مصادفة أو كفاءة النظام الصحي؟ هذا سؤال يصعب تجاهله ويستحق النقاش حوله. بالطبع ستتوالي أسئلة أخرى من نوع جديد مع بدء استخدام اللقاحات التي تم اكتشافها مؤخراً. وسننتقل من الأسئلة التي طالما كانت تدور حول أعداد الإصابات والوفيات ونسب التعافي، الي أسئلة حول كفاءة اللقاحات التي يتم الآن استخدامها، وأى لقاح يحقق نتائج أفضل من الآخر؟ وهل ستسهم هذه اللقاحات في السيطرة بالفعل علي الجائحة، وفي خلال أي مدة؟ هل سيتنفس العالم الصعداء في نهاية هذا العام بإمكان السيطرة علي الجائحة في ظل سيناريو المتفائلين، أم أن البشرية ربما تحتاج لعامين آخرين أو ثلاثة للسيطرة علي الجائحة في ظل سيناريو المتشائمين؟ هذه وغيرها تساؤلات مطروحة للنقاش، إلا أن السؤال الأكثر دقة وربما مأساوية هو الذي يتعلق بتوزيع اللقاحات بشكل عادل علي الشعوب الأقل إمكانات في دول مايسمي بالعالم الثالث؟ ثمة كلام كثير متناثر حول نوع ما من أنواع الأنانية التي تمارسها بعض الدول الغنية المتقدمة في مواجهة الدول الفقيرة من خلال السعي الي تخزين فائض استراتيجي في اللقاحات يتم اللجوء اليه مستقبلاً عند الحاجة.
في نهاية المطاف، وأياً كان الرأي بشأن التساؤلات السابقة، فالمؤكد أن جائحة كورونا قد وضعت البشرية كلها في امتحان عسير لقياس قدرتها علي ممارسة التضامن الدولي، وتحديداً قدرة الدول الغنية والمتقدمة التي تقود ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة. لم يعد التضامن الدولي مجرد شعار، بل أصبح اختباراً حقيقياً، وهو ليس اختباراً أخلاقياً فقط، لكنه اختبار عملي وبراجماتي لأنه في ظل ثورة الانتقالات وسقوط الحدود والحواجز وسيادة اقتصاد العولمة لم يعد ممكناً حصر فيروس كوفيد-19 داخل حدود هذه الدولة أو تلك، فالفيروس نفسه أصبح أحد منتجات العولمة.