يشهد العالم طوال الوقت كوارث إنسانية كبري، طارئة ودائمة، نتيجة عوامل طبيعية كالأوبئة والزلازل والفيضانات والأعاصير، وعوامل بشرية كالحروب والنزاعات، واختلال توزيع الثروة، يتأثر بها ملايين من البشر على مدار الساعة، ما يستدعي أن تكون ثقافة التبرع بالمال حاضرة وفاعلة ومؤثرة، كأداة من أدوات تخفيف المعاناة عن المتضررين، وتعزيز قيم المشاركة الإنسانية، ومع ذلك لا يزال مستوى انتشار ثقافة التبرع بالمال متواضعا وضعيفا علي مستوى العالم، فخلال ربع القرن الأخير 2010 ـ 2024، ظل متوسط انتشار هذه الثقافة بين مواطني وشعوب العالم يدور حول 31% فقط، وانخفض في بعض السنوات الي أقل من ذلك وبلغ 27% ما يعني أن نحو ثلثي البشر لا توجد لديهم ثقافة التبرع بالمال، ولا يمارسون هذه الفضيلة.
هذا ما أمكن الخروج به من مراجعة الإحصاءات الخاصة بمؤشر التبرع بالمال الواردة في قاعدة بيانات مؤشر العطاء العالمي، ويوضح الشكل المرفق أوضاع ثقافة التبرع بالمال في مناطق العالم المختلفة، وعلى مستوى العالم ككل، وبالنظر إلي البيانات المعروضة بالشكل نلاحظ الآتي:
ــ المتوسط العالمي العام لانتشار ثقافة التبرع بالمال خلال السنوات الـ 15 الأخيرة بلغ 31%، وهو مستوى يكاد يكون مستقر الي حد ما، حيث شهد تذبذبات طفيفة وغير مؤثرة من سنة لأخرى منذ عام 2010 ، فطبقا للبيانات بدأ مستوى الانتشار العالمي بـ 30% في العام 2010، واستمر عند الدرجة نفسها في العام التالي، ثم هبط الي 27% في العام 2012، وعاود الارتفاع مجددا في العامين التاليين ليبلغ 29% ، ثم يتجاوز نقطة البداية ويبلغ 32% في العام 2015، ويعاود التراجع الي ان يبلغ 29% في العام 2018، ثم يعود للارتفاع حتي يبلغ أعلى معدلاته علي الإطلاق في العامين 2022 و2024، محققا 35% درجة، وبالتالي صنعت هذه الأرقام المتوسط العام خلال الفترة نفسها والمشار إليه سابقا وهو 31%.
ــ في منطقة افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ينخفض انتشار ثقافة التبرع بالمال عن المتوسط العالمي بمقدار الثلث تقريبا، حيث يصل المتوسط العام الي 20% بين شعوب هذه المنطقة، وتشكل هذا المتوسط بسبب بداية اضعف كثيرا في سنوات الرصد الأولي، حيث كان المتوسط 18% في نقطة البداية عام 2010، واستمر كذلك في العام التالي، قبل أن ينخفض الي أدني مستوي له في العام 2012، ثم يتذبذب بين نقطة البداية ونقط الانخفاض القصوى، حتي عام 2016، وبعدها يبدأ رحلة تحسن تقوده الي ذروة الارتفاع في العام 2021 حينما سجل 27%، ثم يهبط الي 24% في العام 2022ويتحسن في العامين التاليين مسجلا 26% في العام 2024.
ــ في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، يبدو الوضح احسن حالا عنه في افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فالمتوسط العام في هذه المنطقة يتساوى مع أعلي نقطة بلغها في افريقيا جنوب الصحراء، فهو يبلغ 27%، لكنه رقم تشكل بصورة مختلفة، فقد بدأ من نقطة بداية قوية تتساوى مع المتوسط العام العالمي وهي 31% ثم دخل في رحلة هبوط أوصلته الي 23% في العام 2014، قبل أن يعاود الارتفاع في عامي 2015 و 2016 ويصل الي 29%، ثم يبدأ رحلة هبوط جديدة ولكن بصورة ابطأ وأطول أوصلته الي 26% في العام 2023، قبل أن يقفز الي 31% مرة أخري في العام 2024.
ــ يتغير الوضع تماما في منطقة أمريكا الشمالية، ويصل الي مستويات افضل بكثير، ففي هذه المنطقة يصل مستوى انتشار ثقافة التبرع بالمال ليصبح ضعف المتوسط العام العالمي، اذا بلغ 62% في العام 2010، وحافظ علي هذا المستوي كحد أدني حتي عام 2017 و 2018، حينما تراجع إلي 59% ، ثم يهبط إلى أدنى مستوى له في العام 2021 حينما بلغ 45%، ثم يصعد مرة أخرى الي مستواه المعتاد فيسجل 60% عام 2022، ثم 62% عام 2023، و61% عام 2024، ليصبح المتوسط العام خلال هذه الفترة 61%.
ـ في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، كاد الوضع في بداياته أن يلامس أو يكون أقل قليلا عن المتوسط العالمي، حيث بدأ بمعدل انتشار قدره 29%، ثم بدأ رحلة تذبذب مع اتجاه عام نحو الهبوط، حتي بلغ ادني مستوي له في الفترة بين عامي 2018 ة2021، حينما بلغ 22% فقط، قبل ان يرتفع الي 27% ثم يعود الانخفاض مرة أخرى ويصل الى 2.5% ليكون المتوسط العام هو 26%.
ـ كان التذبذب ارتفاعا وهبوطا مع ميل عام نحو الارتفاع هو السمة السائدة في ثقافة التبرع بالمال بمنطقة جنوب آسيا، فنسبة الانتشار بدأت بـ 30% في عام 2010، وظلت تتأرجح بين 26% كحد أدنى سجلته في العام 2012 و 37% كحد أقصى سجلته في العام 2016، ثم تأرجح الوضع الى أن استقر عند 32% في العام 2024، ما جعل المتوسط العام خلال هذه الفترة يقف عند 31% وهو ما يعد أعلى بنسبة طفيفة عن نقطة البداية المسجلة في 2010.
ــ كانت منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي في مكانة أقل من أمريكا الشمالية وأعلى من المناطق الأخرى السابقة جميعا، وبشكل عام كانت أعلي من المتوسط العالمي بما يقرب من النصف، فقد سجل المتوسط العام بها 47%، وظل طوال فترة الرصد محافظا علي قوة دفع متقاربة اتخذت اتجاها تصاعديا، نقلها من 39% عند نقطة البداية في 2010، وانتهي بها عند 48% في عام 2024، وتوسط ذلك ذروة انتشار بلغت 51% عام 2015، ونقطة هبوط قصوى بلغت 42% في العام 2021,
ــ تقاربت منطقة شرق أوروبا وآسيا الوسطى مع منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا بشدة، من حيث المتوسط العام في المنطقتين ال عند 27%، لكنه اختلف معها من حيث التغير السنوي، حيث بدأ انتشار التبرع بالمال في هذه المنطقة بنسبة أدني من الشرق الأوسط، بلغت 22%، ثم اتخذ الأمر مسارا تصاعديا حتي بلغ ذروة تصاعد أولى في العام 2015 بنسبة 30%، ثم واصل التقدم حتي حقق ذروة تصاعد ثانية بلغت 38% في 2022 قبل أن يعود إلي 34% عام 2024.
ــ احتلت منطقة غرب أوروبا المرتبة الثانية عالميا في التبرع بالمال بعد أمريكا الشمالية، وعلى الرغم من ذلك تظهر البيانات أن الأمر اتخذ مسارا عاما يتجه نحو الهبوط، ففي عام البداية 2010 كانت النسبة 50%،ومالت للهبوط بعد ذلك حتي بلغت ادنى مستوى لها عام 2021 حينما حقق 37% فقط قبل ان تعاود الارتفاع وتبلغ 51% في 2024 وتسجل متوسط عام قدره 47%
نخرج من الإحصاءات السابقة بأن مؤشر التبرع بالمال سلوك معقد يتأثر بمزيج من العوامل الثقافية والدينية والاقتصادية والمؤسسية، ولا يعكس الغنى المطلق للدولة، بل يعكس “غنى” ثقافة العطاء ومدى نضج البيئة الداعمة لها.
الرئيسية نشرة رقم عدد سبتمبر 2025