إذا جاز لنا تشبيه فيروس كورونا بالزلزال البيولوجي الذي ضرب الجسد البشري في أوائل هذا العام، فإن لكل زلزال ارتداداته. ويكاد يجمع الخبراء أن اليوم التالي الذي سينسحب فيه فيروس كورونا لن يكون أبداً مثل اليوم السابق على اجتياحه كوكب الأرض. سيخلّف زلزال كورونا أعداداً كبيرة من الضحايا التي تجاوزت لحظة كتابة هذه السطور ستة عشر ألف نفس بشرية غالية، معظمهم من آسيا وأوربا وأمريكا الشمالية والنسبة الأقل حتى الآن من أفريقيا وأمريكا الجنوبية. لكن زلزال كورونا لن يخلّف فقط ضحايا من البشر، بل سيختزن أيضاً بعض الارتدادات اللاحقة التي ستضرب بشدة البني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية التي كان معظمها يتسم بالثبات والاستقرار حتى عشية الغزو الفيروسي.
ليس صعباً أن نتخيّل ارتدادات فيروس كورونا على البني القانونية والقضائية سواء كانت محلية أو دولية، وسواء كانت مؤسسية أم تتعلق بالأفراد. نحن لا نعرف حتى الآن بالطبع متى سيتم القضاء على الغزو الفيروسي الجديد أو بالأقل تراجعه، لكن في كل الأحوال، وحتى مع زوال الفيروس أو تراجعه فإنه سيكون قد ضرب ضربته وترك في طريق عودته خمسة ارتدادات.
الارتداد الأول لفيروس كورونا سيلحق في الأرجح كل عناصر المنظومة القانونية التي تحكم اليوم حركة انتقال الأفراد عبر حدود الدول، وتشريعات الهجرة والإقامة والجنسية والتي ستتأثر حتماً بالمخاوف والهواجس من الوباء الذي سجّل حتى الآن ما يقرب من 400 ألف إصابة ومن احتمالات الموجات التالية لعودته حتى يتم اكتشاف لقاح أو علاج جديد له. باستثناء الفرض المحتمل الخاص ببعض الدول التي قد تحتاج يوماً ما إلى عمالة وافدة تعوّض بها النقص في الأيدي العاملة، فإن الأكثر احتمالاً أن نصبح أمام ظاهرة جديدة اسمها كورونا فوبيا تحل محل ظاهرة الإسلاموفوبيا. وستنظر مجتمعات بعين الريبة والقلق إلى أي شخص يحمل ملامح صينية أو آسيوية عموماً.
النظم القانونية للعولمة قد تتغيّر، بل العولمة نفسها كظاهرة عابرة للحدود، وسيلحق ذلك في الغالب الإجراءات التي يحصل بها الأفراد على تأشيرة دخول لدول أخرى والتي كانت بعض الدول تمنحها إلكترونيا. مثل هذه الإجراءات ربما تصبح أكثر تعقيداً إذ قد تصبح اللياقة الصحية شرطاً للحصول على تأشيرة دخول أو ترخيص بالعمل. ستغدو حريات وحقوق إنسانية تكرسها مواثيق دولية ودساتير محلية مثل حق التنقل محل تساؤل قانوني، والأرجح أنها ستخرج من مجال الإطلاق إلى دائرة التقييد لاعتبارات تتعلق بالنظام العام. على الصعيد الدولي كنا نعرف أن ظواهر العنصرية والعداء للأجانب والخوف من الإرهاب كانت قد بدأت تصبغ بعض التشريعات في دول أوربا وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب والتي راحت تقيّد حركات الهجرة والنزوح إليها، كانت هذه الظواهر في حقيقتها تقوم على اعتبارات أيديولوجية أو اقتصادية، أما أحداث اليوم التالي لكورونا فسوف تشهد الظواهر نفسها لكن لاعتبارات مختلفة ذات أساس بيولوجي أو فيروسي.
الارتداد الثاني لفيروس كورونا سيؤثر بقوة في المدى العاجل على الكثير، بل الكثير جداً من العلاقات التعاقدية القائمة بقدر ما سيغيّر في المدى المتوسط من النظم القانونية للتأمين التي تمثل قطاعاً اقتصادياً هائلاً. ففي المدى العاجل ستهتز بل سترتج العلاقات التعاقدية سواء المحلية أو الدولية، وسواء المؤسسية أو الفردية بفعل سهولة لجوء أطرافها من الآن فصاعداً إلى نظريات القوة والقاهرة والظروف الطارئة كمسوّغ لعدم تنفيذ التزاماتهم التعاقدية أو التأخير في تنفيذها.
في الأحوال العادية كان لجوء أحد طرفي العلاقة التعاقدية إلى مثل هذه الأسباب القانونية كالقوة القاهرة والظروف الطارئة للتحلل من تنفيذ التزاماته استثناء، مجرد استثناء، وكان يتوجب على مثل هذا المتعاقد إثبات أمور شتى مثل عدم توقعه للظرف الطارئ واستحالة تنفيذه، أما اليوم فسوف يصبح من السهولة بمكان لذوي العلاقات التعاقدية أن يتمسكوا بالقوة القاهرة أو الظروف الطارئة، وهو أمر لا بد أنه سيحدث ارتباكاً قانونياً شديداً وسيظل هو سيد المشهد في الكثير من المنازعات التعاقدية سواء أمام المحاكم الداخلية، أو هيئات التحكيم، وحتى المحاكم الدولية.
وفي المدى المتوسط، وربما الآني، ستمتد ارتدادات زلزال كورونا إلى نظم التأمين الطبي، وعلى حياة الأفراد، وعلى عمليات النقل بأنواعه. وحينما نعرف أن حجم اقتصاد التأمين قد بلغ فقط لدى أكبر عشر شركات عالمية للتأمين ما يقرب من 2 تريليون دولار أمريكي فإن سيناريوهات الاقتصاد العالمي تبدو قاتمة. وبقدر صعوبة هذه التداعيات سيكون للمعارف والخبرات القانونية والاقتصادية دور كبير في البحث عن بوابات خروج من هذه الأزمة.
الارتداد الثالث سيتوجه بلا شك إلى التشريعات الصحية والطبية سواء فيما يتصل بجوانبها الوقائية أو بالجوانب الخاصة بالمساءلة القانونية. سيتم استعادة النقاشات القانونية التي كانت تدور في تسعينيات القرن الماضي بمناسبة انتشار فيروس الإيدز (نقص المناعة المكتسبة). كان القانونيون يتساءلون أيامها حول مدى جواز توجيه تهمة التسبب في القتل أو الإيذاء إلى من ينقل فيروس الإيدز إلى غيره عن عمد أو إهمال. ولربما سيصبح التساؤل اليوم هو مدى توافر المسؤولية القانونية لمن ينقل للآخرين عن علم وعمد فيروس كورونا.
على جانب آخر أثبت وباء كورونا مدى الحاجة الملحّة إلى الإسراع في اختراع لقاح أو علاج لهذا الفيروس البغيض، وهو أمر يرتبط بالتنظيم القانوني للتجارب السريرية لهذه اللقاحات والأدوية التي تتعلق بها أبصار البشرية اليوم. أصبح الأفراد المصابون بفيروس كورونا الذين تم إعطاؤهم الجرعة الأولى من الدواء التجريبي الجديد في مشهد علني على الهواء من المشاهير والأبطال. ستصبح التشريعات الطبية المنظمة للتجارب السريرية أكثر ليبرالية في السنوات المقبلة، ولربما يتخلى المشرعون عن حذرهم التقليدي بشأن بعض جوانب هذا التنظيم القانوني لأن العالم كله الذي كان يرقب في إثارة مشهد السيدة الأمريكية أوالصينية التي يتم حقنها بالدواء الجديد بدا وكأنه يتابع مشهد صعود أول رائد فضاء إلى القمر. فلنتوقع إذن أن تكون القوانين المنظمة للتجارب السريرية أكثر جرأة وانفتاحاً على التطلعات العلمية للبشرية ومسايرة منطق الضرورات الطبية في الفيروسات والأمراض المستعصية، وهو الأمر الذي سيمثل في جانبه الآخر تحدياً قانونياً لإقامة التوازن المنشود بين كل هذه الاعتبارات التي تتنازع البشرية اليوم.
الارتداد الرابع لفيروس كورونا سيصيب في الغالب المؤسسات الدولية الأممية والإقليمية. لا أحد يمكنه التنبؤ الآن بما سيكون عليه الاتحاد الأوربي مثلاً بعد شعور إيطاليا بانشغال الحلفاء الأوربيين والغربيين عنها في محنتها الطاحنة لا سيّما وأنه في مقابل هذا الفتور الغربي تجلّى التضامن الصيني مع إيطاليا من خلال المساعدات الصينية التي تدفقت عليها، والتي كان شر البلّية الذي يُضحك فيها ما حدث في دولة التشيك العضو في الاتحاد الأوربي من السطو على شاحنة الكمامات الطبية التي أرسلتها الصين إلى إيطاليا فلم يتردد التشيكيون في الاستيلاء عليها لأنفسهم، ما أعطى الفرصة لنشطاء التواصل الاجتماعي العرب بالتندر على قيم التحضر الأوربي. بادرت روسيا أيضاً لتقديم المساعدة لإيطاليا، بل إن مصر بإمكاناتها المتواضعة قد أرسلت هي الأخرى شحنة قيل إنها مليون كمامة إلى إيطاليا التي تستضيف نحو نصف مليون عامل مصري.
كان الاتحاد الأوربي يعاني من خروج بريطانيا وإعلان أحزاب اليمين القومي المتطرف في فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وهولندا عن نيتها في الخروج من الاتحاد الأوربي في حال وصولها إلى السلطة، ثم جاء زلزال فيروس كورونا وكأنه يقوّي الشعور بالعزلة الجغرافية بقدر ما يضعف روابط الانتماء الإقليمي الأوربي. صحيح أن المصرف المركزي الأوربي قرر منح مساعدات مالية بقيمة 750 مليار يورو لمساعدة الشركات والمنشآت المتضررة لكي وشراء أوراق مالية لكي يحول دون انهيار البورصات الأوربية لكن سؤال اليوم التالي سيكون حرجاً وصعباً في مواجهة الاقتصاد الإيطالي الأكثر تضرراً والاقتصاد الأسباني وربما دول أوربية كبرى لأن الاتحاد الأوربي كان بالكاد قد أفاق من تبعات الأزمة الاقتصادية اليونانية بالرغم من أن اليونان دولة صغيرة نسبياً وذات اقتصاد لا يزيد ناتجه الإجمالي المحلي كثيراً على 300 مليار دولا سنوياً. سيخوض الاتحاد الأوربي إذن امتحاناً عسيراً حينما تضع معركة فيروس كورونا أوزارها في الدفاع عن مبرر وجوده وليس فقط انتشال بعض دوله من المصير الصعب الذي ينتظرها.
يبقى الارتداد الخامس لوباء فيروس كورونا والذي سيؤذن باندلاع أكبر حركة مراجعة فكرية وسياسية واجتماعية لدور الدولة وما إذا كان مفهوم الدولة الحارسة أم المتدخلة هو الأكثر نجاعة لمواجهة مثل هذه المخاطر والحروب البيولوجية الجديدة والتي قد لا يكون وباء كورونا سوى واحد منها فقط. ستخوض الليبرالية وفي القلب منها آليات اقتصاد السوق امتحانها الحقيقي الكبير خلال الفترة المقبلة حتى يتم القضاء على فيروس كورنا وعودة الحياة الطبيعية إلى مدارها. لا نستطيع أن نعرف منذ الآن حدود دور الدولة المتدخلة ولا مدى تحقيقها درجة النجاح الكاملة، لكن ما نعرفه يقيناً أنه أصبح دوراً مطلوباً لا غنى عنه، وإلا فإنها الفوضى. حفظ الله مصر. حفظ الله البشرية.