تذبذبت قيمة التمويل من المؤسسات التي تقدم خدمات مالية إسلامية لبنوك أخرى أو المبالغ المستحقة من البنوك، والتي يطلق عليها سوق المال الإسلامي بين البنوك Islamic Interbank Money Market – IIMM))، وهي تلك الأنشطة التمويلية التي تقوم بها البنوك الإسلامية، والنوافذ الإسلامية في البنوك التقليدية، وشركات التكافل (التأمين الإسلامي)، وشركات التمويل الإسلامي، وصناديق الاستثمار الإسلامية، وغيرها من الكيانات التي تعمل وفق مبادئ الشريعة الإسلامية. وقد شهدت قيمة هذا النوع من التمويلات تأرجحاً كبيراً لتخسر نحو 55.37 مليار دولار في الفترة بين عاميّ 2013 و2023، ففي العام الأول بلغت قيمة التمويل أكثر من 111 مليار دولار في المقابل كانت قيمته نحو 56 مليار دولار فقط في العام الأخير من فترة الرصد. ويمكن تقسيم رحلة التراجع في قيمة التمويل الإسلامي بين البنوك إلى ثلاث مراحل، الأولى مرحلة الاستقرار والثبات النسبي، ثم مرحلة الهبوط والانكماش الحاد، وأخيرا مرحلة التعافي الحذر، ونتناول كل مرحلة على حدة تباعاً؛
الاستقرار النسبي
تشير بيانات الكتاب الإحصائي السنوي للدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة التعاون الإسلامي ومركز الأبحاث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والتدريب للدول الإسلامية (سيسرك)، أن قيمة التمويل من المؤسسات التي تقدم خدمات مالية إسلامية اتسمت بالاستقرار والثبات النسبي في الفترة بين عامي 2013 حتى 2018، وإن كانت تلك القيمة غير متساوية لترتفع تارة وتنكمش تارة أخرى، حيث بلغت قيمة تلك التمويلات نحو111,5 مليار دولار في عام 2013 وهو عام بداية الرصد، ثم ارتفعت تلك القيمة في العامين التاليين بنسب متفاوتة غير أنها كانت ارتفاعات طفيفة لتبلغ نحو 115 مليار دولار في عام 2014، و قرابة الـ 119 دولار في عام، قبل أن تنخفض تلك القيمة إلى نحو 112 مليار دولار في عام 2016، ثم تعاود الارتفاع مجددا في عام 2017 لتحقق ما مقداره 119 مليار دولار، ليترفع قليلا في عام 2018 ويحقق أعلى قيمة إجمالية له والتي لامست 120 مليار دولار للمرة الأولى خلال العقد محل الرصد. كما هو موضح في الرسم البياني.
يعود الاستقرار النسبي في قيمة التمويلات الاسلامية بين البنوك في هذه الفترة إلى مجموعة من الأسباب لعل أهمها أن العديد من الدول ذات الثقل في التمويل الإسلامي (مثل دول الخليج وماليزيا) شهدت فترة من الاستقرار الاقتصادي النسبي، مما انعكس إيجاباً على القطاع المالي ككل. فعلى سبيل المثال ساهمت السعودية بنحو 82.56 مليار دولار في الـ6 سنوات المذكورة، بمتوسط 13 مليار دولار سنوياً، كما بلغت قيمة التمويلات المقدمة من دولة الإمارات العربية المتحدة نحو 45.5 مليار دولار ،كذلك ساهمت الكويت في الفترة ذاتها بما مقداره 29.5 مليار دولار، وفي الفترة ذاتها قدمت ماليزيا وهي أحد أهم الدول الـ20 المرصود بياناتها نحو 80.3 مليار دولار . وتبلغ قيمة التمويلات الإسلامية التي قدمتها بنوك الدول الأربعة نحو 283 مليار دولار، أي ما نسبته 34% من إجمالي ما قدمته بنوك الدول الـ20 في الفترة بين عامي 2013 حتى 2018 والذي بلغ إجماله 697 مليار دولار.
الانكماش الحاد
تشير البيانات أن قيمة التمويلات المقدمة من المصارف الإسلامية انكمشت انكماشاً حاداً في عام 2019 لتهبط من مستوى الـ 120 مليار دولار إلى ما دون الـ 53 مليار دولار فقط، أي بنسبة 56% تقريباً، واستمرت حالة الانكماش في العالم اللاحق أي في عام 2020 لتسجل قيمة التمويلات الإسلامية نحو 43 مليار دولار فقط وهو أدنى قيمة له على الاطلاق خلال العقد محل الرصد، وربما ترجع أسباب هذا الانكماش إلى تأثُر مجموعة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي ببعض التحديات لعل أهمها التقلبات التي شهدتها أسعار النفط عالميا إثر التوترات التجارية خاصة بين امريكا والصين، ما قلل بدوره من الثقة الاستثمارية والطلب على التمويل في الدول التي تعتمد على التجارة والاستثمار الأجنبي. كذلك التباطؤ الاقتصادي وعدم اليقين الذي ظهر في أواخر عام 2019، مما أثر على قرارات التمويل والاستثمار. وفي عام 2020، كانت جائحة كورونا في أوجها، مما أدى إلى إغلاقات واسعة النطاق، وتعطل سلاسل الإمداد، وتراجع حاد في النشاط الاقتصادي العالمي، وهو ما انعكس سلبًا على الطلب على التمويل وقدرة البنوك على الإقراض، وزيادة في مخصصات الديون المتعثرة، وقد واجهت بعض البنوك الإسلامية الكبرى وقتئذ مشكلات في إدارة السيولة، والتي أثرت بما لا يدع مجال للشك في حجم إقراضها العام من خلال التدفقات النقدية الخارجة من المؤسسة في شكل عقود تمويل جديدة (مثل المرابحة، الإجارة، الاستصناع، المشاركة، المضاربة).
تجدر الإشارة كذلك إلى أنه ربما يرجع هذا الانكماش في قيمة التمويلات الإسلامية إلى فقدان بعض البيانات التي لم ترصد لبعض دول منظمة التعاون الإسلامي لاسيما إيران التي لم ترصد بياناتها من عام 2019 حتى 2023، وكازاخستان لم يتوفر بيانات لها منذ عام 2020 حتى نهاية فترة الرصد، ولعلّ فقدان بيانات قيم التمويل من تلك الدول أو من غيرها يؤثر في منحنى الصعود والهبوط.
التعافي الحذر
شَهد عام 2021 تعافي حذر بإضافة ما يقرب من 2 مليار دولار لتبلغ قيمة التمويلات نحو 45.7 مليار دولار، كذلك تم إضافة تمويلات إسلامية بأكثر من 20 مليار دولار في عام 2022 ليبلغ إجمالي قيمة التمويلات نحو أكثر من 66 مليار دولار ، العديد من الحكومات حول العالم (بما في ذلك دول منظمة التعاون الإسلامي) نفذت برامج تحفيز مالية ونقدية ضخمة لدعم الاقتصاد وتخفيف آثار الجائحة، مما زاد من السيولة في الأسواق وعزز الطلب على التمويل. غير أن حجم تلك التمويلات انكمش مجدداً في العام الأخير من فترة الرصد ليبلغ 56 مليار دولار فقط.
أخيراً بقى أن نشير إلى ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لزيادة حجم التمويلات الإسلامية بين البنوك، والذي يعكس بدوره مدى الحاجة إلى أدوات جديدة متوافقة مع الشريعة لإدارة السيولة إلى تطوير وابتكار المزيد من المنتجات والأدوات المالية الإسلامية، فزيادة التمويلات الإسلامية بين البنوك ليست مجرد رقم إحصائي، بل هي مؤشر على نضج القطاع المالي الإسلامي وقدرته على توفير حلول متكاملة لإدارة السيولة داخليًا. هذه الزيادة لا شك أنها تعزز الاستقرار المالي، وتدعم النمو المستدام للتمويل المتوافق مع الشريعة، وتُسهم في بناء نظام مالي إسلامي أكثر استقلالية ومرونة.