يعتمد العالم بصفة أساسية على موارد متعددة ومهمة، من روسيا بخلاف الحبوب، مثل النحاس والنيكل والبلاديوم والتيتانيوم والليثيوم والتربة النادرة، والتي تُعتبر جوهر العديد من الصناعات، خاصةً صناعات الطاقة المتجددة وبطاريات الشحن. ويَظَل استهلاك الطاقة في جميع أنحاء العالم مُعتمداً بشكلٍ كبيرٍ على الوقود الأحفوري لأن سياسات إزالة الكربون المُطبقة حالياً ما زالت حديثة، ومِن ثَمَ فليس لها أثرٌ فِعلي على مصادر الطاقة المتنوعة. في أوروبا، يُمَثل الوقود الأُحفوري ما يقرُب من %70 من الاستهلاك النهائي للطاقة (%22 غاز- %43 نِفط)، أما الكهرباء التي تُمثل ما يقرُب من %22 من استهلاك الطاقة، يتم توليدها كذلك بقدر كبير من الوقود الأُحفوري، وخاصةً الغاز
. وقد شهِدت السنوات الأخيرة زيادةً في استهلاك الغاز الذي تم استخدامه كوسيلة تَحَوّل للطاقة باعتباره أنظف من النِفط والفحم وأكثر قبولًا من قِبل السكان مقارنةً بمنتجات الطاقة الأُخرى مثل الطاقة النووية.
فيما يتعلق بالغاز الطبيعي، يَعتمِد الاقتصاد الأوروبي بشكلٍ كبير على روسيا بنِسَب تتفاوت من دولة إلى أخرى، فيما تعتَمِد بعضُها على روسيا بنسبة %100 مثل دول البلطيق.
أما الاتحاد الأوروبي، والذي يُعتبر أكبر مستورد للغاز الطبيعي في العالم، فيقوم حالياً باستيراد %90 من احتياجاته من الغاز الطبيعي، لِتتصَدر روسيا الحصّة الأكبر من التوريدات بنسبة %41، والباقي يتم استيراد أغلبه من النرويج (%24) والجزائر (%11). ومن حيث احتياجاتِه من النِفط والفحم، تقوم روسيا بتوريد %27 من النِفط و%46 من الفحم.
غيرَ أن وَضْع الولايات المتحدة مُختلف تماماً، لأنها مكتفي ومُصدِّر للوقود الأُحفوري وبالتالي لا تَعتمِد على واردات روسيا، مما يعني أن حظر واردات الطاقة من روسيا، لا يُؤثِر لا على الاقتصاد الأمريكي ولا الاقتصاد الروسي على حدٍ سواء.
تنوّع مصادر الطاقة لضمان تأمينها والقدرة على تَحمُل التكاليف: إنَ اعتِماد الدول الأوروبية القوي على واردات الطاقة من روسيا يُجبرها الآن على إيجاد بدائل للحفاظ على أمْن الإمدادات في المنطقة، وهو ما يتحقق من خلال تَنويِع مصادر الطاقة وبالتالي تأمين سَد احتياجاتِها.
الخِيارات المُتاحة: تتضمن مَساران، الأول: هو المَدى القصير جدًا، وهو المَسار ذو الخِيارات المحدودة نوعًا ما حيث يعتمِد على الغاز، وبالتالي سيظَل الضغط على أسعار الطاقة مُرتفعًا، ويتحَقق على النحو التالي:
أولاً: العمل على تنويع مُوردي الغاز، وفي هذا الصَدد أعْلَن الاتحاد الأوروبي التِزامه بإِنهاء استيراد الغاز من روسيا بحلول عام 2027، وذلك عن طريق زِيادة واردات خُطوط أنابيب الغاز من مُوردين غير روس- بالرغم من محدودية الاختيار- مثل أذربيجان، بالإضافة إلى زيادة وَارِدات الغاز الطبيعي المُسَال، وهو إِجراء ذو تكاليف باهِظة، حيث سَتنْشَأ تكلفة إضافية نظرًا لأن شحنات الغاز الطبيعي المُسَال المُتداوَلة عالميًا يتم شحنها عادةً حيثُما تكون الأسعار أعلى، والطلب من آسيا قوي، وأسعار التسليم الفوري مُرتفعة للغاية. أما سَحب المَزيد من الغاز الطبيعي المُسَال، فسيُكلِف دول الاتحاد الأوروبي 70 مليار يورو (78 مليار دولار) لإعَادة مَلء مَرافِق تخزين الغاز خلال الصيف الحالي، وهو ما يعادل ستة أضعَاف السِعر في السنوات السابقة.
ثانياً، إِحياء بعض محطات توليد الطاقة التي تَعمل بالفحم: مع ازدياد أسعار الطاقة والرغبة في الحفاظ على قُدرة السُكان لتَحمل تكاليف الطاقة، سيكون الإغراء شديدًا لإعادة إِحياء بعض محطات توليد الطاقة التي تَعمل بالفحم والتي تم إِغلاقها لأسباب بيئية، مِما يَعني أن هدف الاتحاد الأوروبي الطموح «Fit for 55» المعني بالوصول الى «صافي الانبعاثات الصفري» للكربون، سيتم تعليقُه مؤقتًا.
وأخيراً، دراسة إمكانية تَمْديد فترات بَقاء محطات الطاقة النووية على الأراضي الأوروبية.
أما على المدى المتوسط إلى الطويل، وتمَاشياً مع طُمُوحات صافي الانبعاثات الصفري للكربون وإزالته من إمدادات الطاقة، هناك ثلاثة حلول رئيسة:
الأول: ضرورة الإسراع بأبعَد مِما كان مخططاً له في البداية من توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المُتجددة: هذا التَوسُع في مصادر الطاقة المُتجددة يَنْطوي على استثمار إضافي كبير في شبكات التوزيع غير المُهيأة لتوليد الطاقة اللامركزيًة مقابل غالبية شبكات التوليد المركزية الموجودة حالياً. وعلى الرغم من ذلك، سيُواجِه الإسراع لتوليد الطاقة من مصادر الطاقة المُتجددة تَحديًا آخر وهو زيادة أسعار النحاس والنيكل والألمنيوم التي وصلت إلى أعلى مُستوياتها على الإطلاق، والتي تَعتمِد في توريدها بصفة رئيسية على روسيا أيضًا، وبالتالي سَتُواجه تَكلُفة إنتاج مشاريع الطاقة المُتجددة والبطاريات ارتفاعًا في تكاليف الإنتاج وتحديات كبيرة في سَلاسِل الإمداد.
الثاني: تركيز أكبر على كفاءة استخدام الطاقة، عن طريق الإعلانات المُختلفة التي تَدْعو إلى توفير الطاقة، والتي انتشرت بالفعل مُؤخرًا.
الثالث: دور الطاقة النووية: عادت التكنولوجيا النووية إلى الظهور منذ عِدّة أشهُر على أرض الواقع بسبب زيادة أسعار الطاقة، بالرغم أنها لم تَحظَ بشعبية كبيرة في بعض الدول سابقاً. ومع ذلك، فإن بِناء محطات طاقة جديدة هي مشاريع طويلة الأجل ولن تَحل مشكلة الاعتماد على الغير في كل الأحوال. غيرَ أنَ تَطورات أزمة أوكرانيا قد تكون أثَرَت على قُبول السُكاّن لهذا النوع من الطاقة.
وفيما يتعلق بالآثار الاقتصادية على العالم فتتمثل في:
التَضَخُم: سيكون لارتفاع أسعار الطاقة القياسية والمتقلبة تأثيراً كبيراً على التَضَخُم الذي يُؤثر بدورِه على جميع قطاعات الاقتصاد. قبل غزو أوكرانيا، كانت أسعار الجُملة للغاز أعلى بحوالي %200 مقارنةً بالعام السابِق، وهو نفس ما حدث لأسعار الكهرباء، وهذه الأسعار المرتفعة كانت مدفوعة بالطلب العالمي القوي على الغاز عقب كوفيد 19-. ويَتنامى عدم استقرار السوق نتيجة عدم اليقين بشأن إمدادات روسيا لأوروبا مما يؤدي إلى زيادة التقلبات وزيادة الأسعار، لكن المؤكد أن التوقُعات متوسطة المدى تُشير إلى أن أسعار الطاقة ستَظل لفترة طويلة أعلى من المتوسط الأخير. بينما ستستَفيد شركات النِفط والغاز من هذه الأسعار المرتفعة في البداية مؤقتاً، لكن ليس لفترة طويلة: تدخل سياسياً بالفعل عدد من دول الاتحاد الأوروبي بهدف وَضْع حدّ أقصى لتكاليف الطاقة للأُسر والشركات نظراً للضغوط التضخُمِية المُتزايدة. وفي نفس الوقت تضطلع «خطة عمل الأزمة المٌؤقتة» بدَعم السيولة لمٌستهلكي الطاقة بكثافة، ومراجعة إرشادات المعونات الحكومية لنظام تداول الانبعاثات ETS مما قد يُخفِف من بعض الضغوط على القطاعات المُتضَررة مثل إنتاج الصُلب أو الأسمدة.
ومن حيث الآثار المالية والإِضْرار بالسُمعة: تتزايد الضغوط على الشركات الغربية جَرّاء قطع عِلاقاتِها وسحب استثماراتها مع روسيا بعد غزو أوكرانيا، وقد أعلنت شركة «بريتيش بتروليوم- BP» أنها ستَتخلى عن أسهُمِها في شركة «Rosneft» التي تُمثِل حوالي نصف احتياطيات النفط والغاز لشركة BP وثُلث إنتاجِها، ويعني سحب ملكية الحِصة البالغة %19.75، فَرْض رسوم تَصِل إلى 25 مليار دولار.
وعلى صعيد آخر، ترتفع أسعار الشَحْن لنقل النِفط الخام من روسيا حيث تَزيد العُقوبات المَفروضة على البلاد من مخاطر نقل الشُحنات على تلك الطرق، في حين أن التَدافُع على الإمدادات البديلة يرفَع أسعار الممَرات الأُخرى.
وأخيراً، ضرورة تطوّر السياسات بالنسبة لاستخدام الطاقة من حيث تنوع المصادر وتشجيع الطاقة المُتجدِدة: قد تُسْرع أزمة روسيا/ أوكرانيا من خُطوات الاستثمار في مصادر الطاقة المُتجدِدة، لا سِيَما في تلك الدول التي تَعْتمِد بِشدة على الطاقة الروسية، وذلك باتِباع استراتيجيات جديدة، وفي هذا الصدد أعْلَن خُبراء المناخ أن تَعْليق خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» قد يعني زيادة الاستثمار في الطاقة النظيفة في جميع أنحاء أوروبا.
المصدر: مؤسسة KPMG، من مقال بعنوان “تداعيات الأزمة الروسية-الأوكرانية على صناعة الطاقة؟”
بتاريخ 31 مارس 2022