لم تألُ دول العالم جهداً في فرض التدابير المجتمعية بُغية الحدّ من سرعة انتشار فيروس كورونا، إلا أن مُعدل الالتزام بتلك الإجراءات لم يكُن مُتماثلاً، فبينما سارعت مجتمعات بعض الدول إلى التقيُّد المثالي بها، تقاعست – في المقابل – مجتمعات أخرى وربما تهاونت بتلك التدابير حتى إشعار آخر، تطفو معه معدلات الإصابة والوفاة، وتتضخم عمّا عداها من أمراض أخرى.
ويتناول المقال مجموعة الدول ذات العلاقة المستقرة بين الالتزام المجتمعي بإجراءات المكافحة ومتوسط الإصابات والوفيات، وتبدّت هذه العلاقة في 59 دولة، يُمكن ردّها إلى ثلاثة مستويات من التصنيف على النحو التالي؛
المستوى الأول، وهي مجموعة الدول الأكثر حذراً وحيطة، والأقل عُرضة لانتشار الفيروس، حيث بادر 60% فأكثر من سكانها بالتقيّد بإجراءات الحد من التنقل المجتمعي، في حين ظلّت مُعدلات الإصابة والوفاة في أدنى مستوياتها. وقد إحتوت تلك المجموعة على تسعة دول من بينها بوليفيا على سبيل المثال، التي سجّلت مُعدلات تراجُع كبيرة في التنقل إلى قطاع المتاجر وأماكن الترفيه بلغ متوسط نسبته 93% من إجمالى عدد سكانها، وفي قطاع البقالة الصيدليات كانت نسبة التراجع 94%، كذلك التنقل من خلال وسائل المواصلات التي بَلَغَ نسبة التراجع في استخدامها إلى 91%. في المقابل سجلت بوليفيا معدلات إصابة بَلَغَ متوسطها العام أقل من 1%، وفي ذات فترة الدراسة التي استغرقت 43 يوماً سجلت حالات الوفاة أقل من 1% أيضاً.
أما المستوى الثاني، هي مجموعة دول أقل إكتراثاً من نظيرتها في المستوى الأول، والتي التزم 20% إلى 60% من إجمالي عدد سُكانها بالحدّ من التنقل المجتمعي، والتي بلغت في مجموعها 41 دولة من إجمالي 59 دولة أُجريت عليهم الدراسة، ورغم انكماش مُعدل الالتزام بالتنقل المجتمعي، إلا أن تلك الدول سجّلت أقل عدد من الإصابات والوفيات مثلما سجلت مجموعة الدول ذات المستوى الأول. الأمر الذي يقطع معه رابطة السببية بين مُعدل الالتزام بتقليل التنقل المجتمعي ومُعدل الإصابات والوفيات المُقابل لها، فلا يُعد أحدهما مؤشراً للأخر.
فعلى سبيل المثال بَلَغَ متوسط سويسرا في معيار الالتزام بالتنقل المجتمعي 40.8%، حيث انحسر معدل التنقل إلى أماكن العمل بنسبة 42%، وتراجع كذلك تردُد السكان على المتنزهات بنسبة 42%، كما تراجع مُعدل التردد على محطات وسائل المواصلات بنسبة 48%، وبَلَغَ التراجع ذروتهُ في قطاع المتاجر وأماكن الترفيه حيث تقلّص روادهما بنسبة 76% من إجمالي عدد السكان، في المقابل كان متوسط الإصابات في سويسرا أقل من 1%، وهي ذات نسبة الوفيات فيها.
وتقع دولتين عربيتين ضمن مجموعة الدول في هذا المستوي، وهما سلطنة عُمان وليبيا، حيث بلغت نسبة التزام الأولى بالحد من التنقل المجتمعي 44.2% من إجمالي عدد سكانها، ويتبدى ذلك من خلال الإحصاءات المتدنية التي سُجلت لرواد المتاجر وأماكن الترفيه والتي تقلّصت بنسبة 55%، بينما كان نصيب قطاع المتنزهات من السكان 58% فقط، كما إنخفض معدل التردد على البقالة والصيدليات بنسبة 38% من مجموع عدد السكان. في المقابل سجّلت سلطنة عُمان إصابات بلغ متوسطها أقل من 1%، وهي ذات نسبة الوفيات فيها.
وفي ليبيا، فقد التزم بالحد من التنقل المجتمعي 32.7% من مجموع سكانها، وفي المقابل بَلَغَ متوسط الإصابة والوفاة فيها أقل من 1%. وتتبدى مظاهر التراجع في كافة القطاعات الستة، حيث تقلّص رواد المتاجر وأماكن الترفيه بنسبة 44%، بينما تراجع أيضاً معدل التردد على المتنزهات بنسبة 27%، وعلى ذات المنوال تراجع رُواد البقالة والصيدليات بنسبة 21%، ومحطات وسائل المواصلات بنسبة 49%، والمناطق السكنية بنسبة 20% فقط.
أما المستوى الثالث، هي مجموعة الدول التي يُمارِس سكانها وضع أشبه بالوضع الطبيعي في الظروف العادية والتي بلغ عددهم تسع دول، وتعد مجتمعات تلك الدول هى الأقل تحوطاُ وكأنها لا تأبَه لوجود هذا الفيروس، حيث يلتزم أقل من20% من مُتوسط عدد سكان تلك الدول بتدابير الحد من التنقل المجتمعي، لا سيما تايوان التي يذعن 14% فقط من مُتوسط سكانها لتلك التدابير، فبالنظر إلى نسب التردد على قطاع المتاجر وأماكن الترفيه فقد بلغت نسبة التراجع فيها 22% وهى نسبة ضئيلة، بينما سجل قطاع البقالة والصيدليات تراجعاً بنسبة 7% فقط، وارتادَ نحو 91% إلي أعمالهم، و88% من سكانها تردد على المتنزهات، بينما بلغت نسبة التنقل في المناطق السكنية 94% من إجمالي سُكان تايوان. وفي المُقابل إستقرّت نسبة الإصابات والوفيات عند أقل من 1%.
والمُلاحظ من استقراء المستويات الثلاثة الآنف ذكرها، نجد أن معيار ثبات واستقرار معدلات الإصابة والوفاة عند أقل من 1%، لا يتأسس على معيار الالتزام بالتنقل المجتمعي التي تراوح متوسطها خلال مدة الدراسة من 10% إلى 80%. ورغم تبدد هذا الأساس، إلا أنه يُنذر بخطر مُحدق بالنسبة لدول المستوي الثاني، وبالأخص دول المستوي الثالث، التي تتلكأ في إنفاذ قراراتها على المجتمع بشكل حاسم، والتي رُبما يُشار إليها بأصابع الاتهام لاحقاً نتيجة إهمالها الجسيم في تفعيل تدابير الحد من التنقل المجتمعي. وتسير على خطى الدول المضطربة التي تأخرت في إتخاذ التدابير الملائمة في الوقت المناسب، وما يؤكد ذلك أن علاقة الارتباط بين متوسط معايير التنقل المجتمعي ومتوسطات الوفاة في تلك الدول بلغ نسبتها 29%. بينما بلغت 6% من متوسط الإصابات، مما يُمكن معه القول بأن تلك الدول تقف على حافة هاوية الإنزلاق نحو فيروس كورونا.
ورُبما تُحافظ هذه الدول على مقعدها الثابت بين دول العالم من حيث انخفاض معدلات الإصابة والوفاة، إذا بادرت برفع نسب الالتزام بالحد من التنقل المجتمعي في الوقت المناسب، ولم يتسلل بين يدها عامل الوقت الذي لا يقل أهمية عن عوامل أخرى مثل كفاءة المنظومة الصحية وجودة الأطباء والممرضين وغيرها. فلا يؤتي الحد من التنقل المجتمعي ثماره إلا إذا كان سبباً لتقليل انتشار الفيروس لا نتيجة له.