تحذيرات منتدى “دافوس” عن العنصرية الجديدة

سليمان عبد المنعم

ها هو المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» المعتبر أكبر منصة عالمية للانشغال بقضايا الاقتصاد العالمي وما يتفرع عنها يلقي الضوء على أحدث مظاهر التمييز والعنصرية فيما يشبه التحذير. والجديد في رؤية منصة «دافوس» أنها تسعى للربط بين الممارسات التمييزية وما يمكن أن يترتب عليها من خسائر وأضرار تلحق بجوانب اقتصادية أو تكنولوجية أو تجارية. أن يكون التحيز لصالح عرق أو لون أو جنس أو التمييز بينهم ممارسة عنصرية بغيضة في الميادين الاجتماعية أو القانونية المتصلة بالعدالة أو حتى الرياضية أو غير ذلك، فهذا أمر كان معروفاً بالرغم من استهجانه الاجتماعي أو تأثيمه القانوني أحياناً. لكن الغريب اليوم هو أن نكتشف مجالاً جديداً للتحيز أو التمييز ضد العقل الإنساني بسبب أحد الأسباب العنصرية السابق ذكرها في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي أو الأنشطة التجارية، وهو الموضوع الذي أفرد له منتدى دافوس مساحة خاصة على منصته الرقمية.
وما يتضمنه هذا العدد الجديد من نشرة رقم حافل بالاكتشافات والمفاجآت المثيرة للتأمل والدهشة. فحين يقوم معهد MIT الشهير في ماساشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية بإزالة 80 مليون صورة من على موقعه تتعلق بأنظمة الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه لأنها كانت تقود إلى نتائج تكرّس ممارسات عنصرية تتعلق بالنوع الإنساني (الجندر) أو اللون أو الحالة فهذا أمر غير مسبوق. ولعلّ أخطر ما تم اكتشافه أن نسبة خطأ أنظمة الذكاء الاصطناعي في التعرف على الوجوه تصل في حالة النساء السود إلى 35% بينما لا تزيد في حالة الرجال البيض على 1%، وقد ترتب على ذلك أن حدث اعتقال خاطئ لرجل أمريكي من أصل إفريقي في مدينة ديترويت الأمريكية إثر قيام نظام التعرف على الوجه بمطابقة خاطئة لصورته مع شخص آخر كان قد سبق تصويره في مخالفة قانونية.
في هذا العدد أيضاً إطلالة بالأرقام على مظهر آخر للتحيز ضد المهاجرين الآسيويين الذين تتعدد مظاهر التحيز ضدهم لأسباب تتعلق بفيروس كورونا المستجد، وهو تحيز يبدأ من التعدي اللفظي إلى الاعتداء على ممتلكاتهم حتى الاعتداء البدني عليهم. وكمجرد مثال فقد تلقى مركز أبحاث جامعة فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 1700 بلاغ ضد حالات التمييز الناشئ عن فيروس كورونا، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في بلدان أخرى مثل استراليا وإيطاليا وألمانيا.
وعلى صعيد آخر تتجلى أهم مظاهر التمييز لأسباب عنصرية في مجال الأعمال التجارية والشركات، فقد ثبت أن الشركات ذات الأداء السيئ في بعض الدول نتيجة لممارسات تمييزية قد تأثرت أرباحها بنسبة 30% تقريباً، وفضلاً عن ذلك فإن هذه الممارسات العنصرية خلقت لدى العاملين في هذه الشركات مناخاً بعدم الأمان النفسي. ولعلّ أهم الخلاصات المتعلقة بأثر التمييز لأسباب عنصرية على الممارسات التجارية هو ما أثبته أحد التقارير التي أشار إليها المنتدى الاقتصادي العالمي من ان 64% من المستهلكين على مستوى العالم سيشترون أو يقاطعون علامة تجارية ما بناء على موقفها من قضية اجتماعية معينة، وهو ما أكده أيضاً أحد استطلاعات الرأي التي تمت عقب وفاة المواطن الأمريكي من أصل إفريقي «جورج فلويد» أثناء إلقاء القبض عليه في 25 مايو الماضي.
والواقع أن هذه الوقائع والمشاهد والأرقام السابق الإشارة إليها إنما تقود إلى طرح السؤال التالي: كيف يمكن للعالم أن يكبح تنامي الظاهرة العنصرية ويحول دون تفاقم النتائج المترتبة عليها؟ وعلى الرغم من تحقق نجاحات يصعب إنكارها في مجال مكافحة العنصرية على المستوى العالمي بدرجات متفاوتة فلماذا لم تنجح السياسات الاجتماعية والثقافية وكذلك الأطر القانونية التي انتهجتها مختلف دول العالم في القضاء على الظاهرة حتى أنها بدأت تعيد انتاج نفسها في السنوات الأخيرة؟ ثلاثة عوامل أساسية – ضمن أخرى بالطبع- تقدم تفسيراً محتملاً لظاهرة تجدد وتفاقم الروح العنصرية والممارسات التمييزية في العالم، مع ملاحظة أن الأمر يتعلق بتفسير ما هو كائن وليس بتقييمه.
السبب الأول هو زيادة معدلات الهجرة والنزوح من المجتمعات التي تعاني من الحروب الأهلية والصراعات الداخلية إلى الدول الغربية وعلى وجه الخصوص أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، يستوي في ذلك حالات الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية. ربما يخص هذا التفسير بدرجة أكبر النازحين والمهاجرين من مجتمعات عربية وإسلامية لكنه خلق (حالة عامة) تتسم بالخوف والحذر والنفور من الآخر المختلف، وهي ثلاثية طالما شكّلت البيئة النفسية والعقلية التي في حاضنتها تنبت بذور الكراهية والعنصرية.
السبب الثاني دخول المخاطر البيولوجية المتعلقة بالأوبئة والفيروسات ضمن دائرة المخاطر الكونية التي عرفها العالم وعلى رأسها الخطر النووي ثم خطر الاحتباس الحراري وانقلابات البيئة، وها هو الخطر البيولوجي بدوره يؤثر سلباً على سلوكيات وأمزجة وعلاقات الأفراد والمجتمعات. ربما يجب الاعتراف في هذا السياق أن الخطر البيولوجي المرتبط بالحالة الصحية للشخص المصاب بفيروس كورونا لا يقتصر فقط على سلوك مجتمع غربي مثلاً في مواجهة شخص آسيوي بحكم أن الفيروس قد انطلق من آسيا، لكن الممارسة التمييزية العنصرية ضد المصابين بفيروس كورونا كان لها شواهدها أيضاً حتى في المجتمع الواحد من جانب المواطنين ذوي العرق واللون والدين الواحد ضد بعضهم البعض. ولعلّ واقعة الطبيبة المصرية التي حاول قاطنو البناية التي تسكن فيها إجبارها على مغادرتها خوفاً من إصابتها بفيروس كورونا تبدو مثالاً على ما خلقه فيروس كورونا من نوازع تمييزية بسبب الحالة الصحية.
السبب الثالث هو تنامي حركات وتيارات اليمين العنصري في بعض دول أوربا (بما فيها دول غرب ووسط أوربا معاً) والولايات المتحدة الأمريكية. فقد اتضح جليّاً الدور السلبي الذي قامت به هذه الحركات والتيارات المناهضة لأي وجود عرقي أو ديني مختلف في خلق مناخ من الكراهية والتمييز. وفي قلب هذا المناخ جاء وباء كورونا المستجد ليزيد الطين بلّة ويفاقم الأمور تعقيداً لتواجه البشرية سؤالها الكبير والعسير حول لأيهما يكون الانتصار لاعتبارات التضامن والتآخي الإنساني أم لغرائز الأنانية والإقصاء؟