يظل السؤال المركزى الذى عنه تتفرع الكثير من مشكلات وقضايا التعليم الفرعية هو سؤال النظام الأمثل للالتحاق بالتعليم الجامعي. ويكاد هذا النقاش يسفر عن رؤيتين: الأولى خلاصتها ضرورة ضبط وترشيد الأعداد الهائلة من الطلاب الذين يلتحقون بالتعليم الجامعى فى ضوء متطلبات عملية التنمية واحتياجات سوق العمل. وفقاً لهذه الرؤية يتقدم منطق التنمية واحتياجات سوق العمل على عادات وأعراف تعليمية لم تشأ أو لعلّها لم تستطع حتى اليوم أن تواجه فى حسم معضلات التنمية ومتغيرات سوق العمل فظلت أسيرة لعاداتها وأعرافها بينما كل شئ من حولنا يتغير،لكن هذه الرؤية الأولى التى تسعى لمواءمة التعليم مع ضرورات التنمية واكتساب المهارات التى يحتاجها سوق العمل ما زالت غير قادرة أو مهيأة لمواجهة التحدى الأكبر ولعلّه الأخطر وهو كيفية ضبط وترشيد سياسة الالتحاق بالتعليم الجامعى بما يخدم هذه الفلسفة. إذ يبدو أن هذه السياسة تصطدم بجموعة محاذير واعتبارات اجتماعية وسياسية خلاصتها أنه من الصعب الاكتفاء بقبول نصف أو ربع أعداد خريجى الثانوية العامة وترك الباقين فى الشوارع لا سيما وأن التعليم الفنى ورغم الفرص والآفاق الهائلة التى يتيحها ما زال غير قادر على استقطاب وإغراء شبابنا.
أما الرؤية الثانية فتنطلق من الاعتراض على تقييد سياسة الالتحاق بالتعليم الجامعى بحجة سوق العمل إذ ليس من العدل حرمان شاب من الالتحاق بكلية معينة لأن نقابة مهنية تطالب بتقليل أعداد الملتحقين بها لتشبع السوق. ووفقاً لما يراه بعض خبراء التعليم فإن سوق العمل يتجاوز الحدود الجغرافية لمصر وأن خريجى الجامعات لدينا مطلوبون أيضاً فى سوق عمل دولى واسع (عربى وأوربى). يضاف إلى ذلك أن خريجى الجامعات الذين نطالب بالحد من أعدادهم اليوم يمكن أن يكونوا هم أنفسهم خالقى فرص عمل لغيرهم فى المستقبل. وعلى أية حال يبقى السؤال مطروحاً فى مصر وخارج مصر على حد سواء هل يمكن أن يكون ارتفاع البطالة لتشبع السوق مبرراً للحد من أعداد الملتحقين بالتعليم الجامعى؟ الواقع يؤكد أن البطالة موجودة فى كل المجتمعات بنسب متفاوتة لكن ذلك لم يكن سبباً لأن تحد هذه المجتمعات من فرص التعليم الجامعى للشباب.
نحن إذاً أمام رؤيتين تقدم كل منهما على مستوى التشخيص والحلول طرحاً مغايراً لإحدى أهم قضايا حاضرنا ومستقبلنا على الاطلاق وهي قضية التعليم، وفى القلب منها قضية سياسة الالتحاق بالتعليم الجامعى. ولكى نخرج من هذا النقاش بمحصلة إيجابية تدفعه قدماً إلى الأمام فلا بد من الإحتكام الى سؤال مركزى هام هو هل تشبع السوق فى مجال معين أو افتقاره لمهارات لا يوفرها التعليم الجامعى بوضعه الحالى فى مجال آخر يعد مبرراً للحد من أعداد الملتحقين بالتعليم الجامعى؟ هناك من يرى ذلك وثمة من يعترض. محك الاختلاف بين الرأيين هو نسبة البطالة المرتفعة فى المجتمع المصرى. للوهلة الأولى يبدو الرأى الأول مهموماً ومحُقاً بشأن ظاهرة البطالة وسياسة الالتحاق بالتعليم الجامعي. وتبلغ نسبة البطالة بصفة عامة وفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء 7.9% عن العام 2019 لكن المفارقة أن هذا الرقم الجيد مقارنة بالأعوام السابقة يقفز فجأة بشكل لافت وملحوظ لدى خريجي الجامعات إلى 16.7% عن العام نفسه. ثم تشتد المفارقة حين نعلم أن معدل البطالة لدى الحاصلين على مؤهل متوسط تبلغ 8.3% ولدى الحرفيين غير الحاصلين على أي مؤهل سوى شهادة محو الأمية 3.3% فقط!!
وحين نتأمل نفس المشكلة في الدول الأخرى فإن الارقام تستحق الانتباه والتأمل. فكوريا الجنوبية إحدى أكبر اقتصادات العالم انخفض فيها معدل القبول في الجامعات من 86 لكل مائة نسمة في سن التعليم الجامعي إلى 80 لكل مائة في السنوات الأخيرة إثر مراجعات تمت لسياسة التوسع الهائل في القبول بالجامعات، وفي ألمانيا إحدى أكبر القلاع الصناعية في العالم يلتحق بالجامعات 53 شاباً فقط لكل مائة نسمة مقابل نظام لمدارس التكوين المهني هي الأوسع والأكثر تطوراً في العالم، وفي الهند الصاعدة صاحبة خامس أكبر اقتصاد عالمي بإجمالي ناتج محلي بلغ 2 تريليون و800 مليار دولار في 2018 لا يلتحق بالجامعات فيها سوى 27 فقط لكل مائة نسمة مقابل 35 لكل مائة نسمة في مصر. اليابان نفسها لا يتجاوز معدل القبول في الجامعات فيها 61 لكل مائة نسمة في سن التعليم الجامعي.
لكن السؤال، هو هل يجوز القياس على واقع هذه الدول المتقدمة والمطالبة بالتالى بعدم تقييد سياسة القبول بالجامعات؟ أغلب الظن أن القياس على واقع الآخرين غير جائز لسببين أولهما أن المعدل المرتفع للالتحاق بالتعليم الجامعى فى الدول الأخرى لم يكن أبدأً على حساب الجودة التعليمية، وهو الأمر الذى يُخالف واقع الحال فى مصر لأن تواضع أن لم يكن تدني مستوى التعليم الجامعي فى مصر إنما يرجع بالأساس إلى الزيادة الهائلة وغير المعقولة لأعداد الملتحقين بهذا التعليم. السبب الثانى أن قبول هذه الأعداد الكبيرة فى جامعات الدول المتقدمة لم يمنعها من تطبيق المعايير والضوابط اللازمة لحسن توظيف وترشيد هذه الأعداد الكبيرة، يكفي أن نعرف أنه بالنسبة لخريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون على سبيل المثال توجد فرصة عمل واحدة لكل ستة أو سبعة خريجين باعتبار أن عدد خريجي عام 2018 وفقاً لتقدير جهاز التعبئة والإحصاء بلغ 58 ألف خريج بينما لا يتجاوز احتياج سوق العمل القانوني سنوياً أكثر من 10 آلاف متخرجاً في أفضل الأحوال. والمثال قابل للتعميم في تخصصات أخرى غير القانون.
وبديلاً عن سؤال المفاضلة بين سياسة التوسع السؤال الذي يجب أن يدور حوله النقاش هو، ما الاساليب والآليات التى تضمن لنا التوظيف الأمثل لقدرات طلابنا وميولهم؟ مكتب التنسيق يبدو اليوم آلية تجاوزها العصر. هل يكون الحل فى تجزئة الجامعات الكبيرة الى جامعات صغيرة يمكن التحكم فى أعداد المقبولين بها وبحيث يمكن إجراء مقابلات واختبارات دخول للطلاب الجدد؟ لكن هل لدينا العدد الكافى من أعضاء هيئة التدريس لمائة جامعة مصرية مثلا؟ ثم هل لدينا باقى الإمكانيات والموارد الأخرى التى تتطلبها مثل هذه السياسة؟ أسئلة تعود بنا إلى مربع الصفر من جديد وهو قضية الإمكانيات والموارد. أياً يكن الأمر هناك كوة أمل تبعث على الأمل قد تمثل حلاً لمعضلة سؤال تعليم للتثقيف أم لسوق العمل. كوّة أمل اسمها «التعليم الفني».