للأرقام أهميتها وجدلها وأيضاً خطورتها، ولها تأثير يفوق أحياناً أي حجة نظرية أخرى. ومن هنا المقولة الشائعة إن الأرقام لا تكذب. وبرغم ذلك تبقى الأرقام حمّالة أوجه ليس فقط لأنه يمكن تطويعها لإثبات دلالة معينة بحسب المنظور الذي نرى الرقم من خلاله، ولكن أيضاً لأن دلالة الرقم قد تتغيّر من حال إلى حال إذا تمت مقارنته بأرقام أخرى تتعلق بالظاهرة نفسها محل الرقم أو الإحصائية. لأهل التخصص في علم الإحصاء والأرقام كلام كثير يُقال في هذا الخصوص وشروط صارمة يجب توافرها لكي يكتسب الإحصاء مصداقيته مثل شرط كفاية العدد والتمثيل الجيد للعينة وغير ذلك من شروط. ولهذا يجب رؤية الأرقام ليس باعتبارها معطىً حسابياً أو إحصائياً فقط لكن بوصفها أحد أدوات البحث العلمي بل والفكري عموماً. وهو أمر صحي ومطلوب يثري النقاش العام حول واحدة من قضايانا المجتمعية بل المصيرية الهامة.
معروفٌ أن هناك ضوابط ومعايير لاستخلاص الأرقام والإحصاءات لدى المتخصصين، لكن يكفي لمن يستند إليها أن يدعمها بالمصدر الذي أعدها، والأهم أن يكون لهذا المصدر موثوقية مهنية أو بحثية سواء كان مؤسسة أو فرداً، وأن يحدد النطاق الزمني أو الجغرافي الذي يغطيه الرقم. لكن علينا في كل الأحوال أن نتوقع اختلاف دلالة الأرقام بحسب ما يرتبط بها من سياقات موضوعية وبحسب طرائق استخدامها وتفسيرها. هنا تتحوّل الأرقام من مجرد ظاهرة كمية صماء إلى ظاهرة نوعية ناطقة. فحين نذكر مثلاً حجم الانفاق على التعليم في مصر فإن دلالته ستختلف بحسب نسبة هذا الانفاق من الناتج الإجمالي المحلي أو من الموازنة السنوية للدولة. فالإنفاق العام للدولة على التعليم بلغ في مصر في العام 2018/2019 طبقاً للموازنة العامة للدولة 115 مليار و667 مليون جنيه وهو ما يمثل نسبة %8.1 من إجمالي الانفاق العام (تقرير الجهاز المركزي للإحصاء مصر في أرقام 2020) لكن نسبة هذا المبلغ من إجمالي الناتج المحلي تمثل %2.5. كما يظل مؤشر حجم الإنفاق على التعليم غير كاف في دلالته عند المقارنة مع الدول الأخرى ما لم نأخذ في الاعتبار الوزن السكاني. فلا تسوغ مثلاً المقارنة الحسابية الصماء بين نصيب الطالب المصري من الانفاق السنوي على التعليم مع نظيره في دول مثل الإمارات أو الكويت أو الدانمارك أو فنلندا والتي لا يجاوز عدد سكانها %5 تقريباً من عدد سكان مصر، بل إن المبلغ المخصص للإنفاق على تطوير التعليم لا يبدو بذاته معياراً كافياً للاهتمام بالتطوير لأننا قد نكتشف مثلاً أن %90 من هذا المبلغ مخصّص لمرتبات أعضاء هيئة التدريس والأجهزة الفنية والإدارية والنفقات الثابتة الأخرى فلا يتبقى إلا أقل القليل للإنفاق على جوانب عملية التطوير ذاتها. من هنا يجب الحذر لأن الأرقام الإجمالية وحدها تبقى قاصرة ما لم يتم تحليلها وتفسيرها على ضوء العديد من العناصر النوعية الأخرى.
تزداد إشكالية الرقم تعقيداً حين يتعلق بظواهر يتم قياسها بناء على مجرد مدركات أو استبيانات أو تغطيات إعلامية كما في مؤشر الشفافية أو مكافحة الفساد الذي يردده الناس كما لو كان معطىً حسابياً محدّداً مع أنه أقرب إلى الانطباع أو التصوّر الإدراكي. كذلك الأمر فيما يتعلق بأحد أشهر المؤشرات وهو مؤشر الأمية أو القرائية. فهناك الكثير من التقديرات المتفاوتة لنسبة الأمية في مصر نجدها في تقارير البنك الدولي واليونسكو وتقرير التنمية البشرية، معظم هذه الأرقام يبدو متفاوتاً، قد لا يكون التفاوت شاسعاً لكنه يبقى تفاوتاً في كافة الأحوال. فالرقم الخاص بنسبة الأمية القرائية في مصر كما هو مثبت وفقاً لأحدث تقرير إحصائي لعام 2018 أصدره الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء هو %25.8 لكن هذا الرقم لا يعطي صورة واضحة بغير معرفة نسب الأمية وفقاً للشرائح العمرية إذ تتفاوت نسبة الأمية فتكون أعلى بين كبار السن مقارنة بالشباب. كما أن نسبة النساء الأميات تبلغ %62 من إجمالي الأميين.
على صعيد آخر فإن التقرير الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية يثير كعادته منذ إصداره الأول في عام 1995 العديد من الملاحظات والتساؤلات والدلالات. وكلها مستويات متداخلة فيما بينها جديرة بالتأمل والبحث لا غنى عنها لفهم هذا التقرير الذي لا يخلو تصنيفه السنوي لدول العالم من الإثارة وأحياناً الدهشة ولهذا ينتظره البعض بكثير من الترقب!
أول ملاحظة واجبة تتعلق بكيفية إعداد هذا التقرير، وهل تستحق نتائجه هذه الدرجة من الموثوقية التي يحظى بها لدى الكثيرين؟ هنا قد لا يملك المرء إجابة بالإيجاب أو النفي لكننا بالمقابل نملك رصد عدد من الحقائق التي ربما تسهم في تسليط الضوء على الإجابة المنشودة. فالتقرير له منهجية عمل تعتمد على مجموعة من الاستطلاعات تصفها منظمة الشفافية الدولية بأنها تمثلت في تقرير هذا العام في 13 استطلاعاً للرأي أعدها مجموعة من الخبراء. نحن لا نعرف على وجه التحديد ما إذا كانت الأرقام التي يتضمنها التقرير عن 180 دولة في العالم هي نتاج رصد دقيق وتحليل للقضايا التي تُصنّف بالفساد (كالرشوة والاستيلاء على المال العام والتربح الوظيفي واستغلال النفوذ وغيره) من خلال أجهزة إنفاذ القانون المختلفة أم يقتصر الأمر على ما يُنشر في وسائل الإعلام أم أن الأمر يتعلّق باستطلاع رأي يتضمن تقييماً من وجهة نظر الأشخاص المستطلع رأيهم؟ يصف تقرير الشفافية نفسه بأنه تقرير لمؤشر مدركات الفساد Corruption perceptions index ثم نجد أنفسنا أمام تعريف تتبناه منظمة الشفافية الدولية نفسها بأنه مؤشر انتشار الفساد في القطاع العام وفقاً للخبراء ورجال الأعمال.
الانطباع العام السائد لدى الكثيرين عن الظاهرة متوافق على نحو ما مع ما يتضمنه التقرير، لكن يظل ضرورياً التعرف بدقة على منهجية عمل التقرير ومدى صوابها العلمي حتى يسوغ لنا القول بأن (الانطباعات) توافق (الحقائق). فعلى سبيل المثال هل يعني استبعاد الفساد في القطاع الخاص توجهاً ما أيديولوجياً من منظمة الشفافية الدولية؟ وهل تكتمل الصورة العامة عن الفساد في دولة معينة بدون رصد وقياس هذا الشكل من أشكال الفساد لا سيّما في ظل واقع أن دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي يتجاوز في الوقت الحاضر دور القطاع العام في معظم دول العالم؟ وماذا أيضاً عن ممارسات تلجأ إليها كبرى الشركات في الدول الصناعية المتقدمة للفوز بمناقصات في دول العالم الثالث من خلال دفع عمولات كانت مقننة قانوناً حتى وقت قريب مضى إذ كانت تُخصم من الأوعية الضريبية لهذه الشركات. كل هذا لا يظهر في التقرير، وقد كان يمكن فيما لو تم قياسه أن تتغيّر أرقام وتصنيفات.
خلاصة القول إن الإحصاءات والأرقام تبدّد لنا ظلاماً معرفياً ما كنا بدونها نرى شيئاً وسط عتمته، لكن قراءتها وتفسيرها ما زال يطرح الكثير من التساؤلات.