يوافق 11 من شهر يوليو الجاري ذكرى اليوم العالمي للسكان. ولا تكف قضية السكان عن إثارة الكثير من التأملات والتساؤلات، فهي قضية الوجود الإنساني نفسه. ومن بين ما تثيره ثلاثية ظواهر الهجرة واللجوء والنزوح. ويقدم تقرير الهجرة العالمي لعام 2020 الصادر حديثاً عن الأمم المتحدة صورة إحصائية متخمة بالأرقام عن هذه الظواهر الثلاثة. ولا شك أن العرب معنيون بشدة بهذه الظواهر لا سيّما في ظل الصراعات الأهلية والعنف التي تجتاح المنطقة العربية لأسباب شتى. هناك مهاجرون تركوا بلدانهم بحثاً عن ظروف حياة أفضل في بلدان أخرى ربما كان معظمهم سعداء. يبلغ عدد هؤلاء 272 مليون مهاجر أي بمعدّل مهاجر واحد لكل ثلاثين شخصاً من سكان العالم. أما اللاجئون فيبلغ عددهم 26 مليون لاجئ منهم 6.7 مليون لاجئ سوري. واللاجئ بحسب مفهوم القانون الدولي هو كل شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة بسبب ظروف قهرية تدفعه كاحتلال أو عدوان أو اضطهاد أو تطهير عرقي أو كوارث طبيعية تدفعه إلى اللجوء طالباً حماية دولة أخرى. وهناك النازحون أو المشردون وهم السكان الذين يفرون من صراع أهلي أو أحداث عنف أو اضطهاد إلى مكان آخر في الدولة دون أن يعبروا الحدود الدولية المتاخمة مع الدول المجاورة.
على صعيد ظاهرة الهجرة تؤكد أرقام التقرير العالمي للهجرة لعام 2020 أن عدد المهاجرين الذكور يبلغ 52% من إجمالي عدد المهاجرين (272 مليون مهاجر) وذلك مقارنة بعدد المهاجرات الإناث الذي يمثل 48% من هذا الإجمالي. كما يشكل المهاجرون الدوليون في سن العمل (20 إلى 64 سنة) 74% من إجمالي عدد المهاجرين.
يقود تأمل الأرقام الخاصة بظاهرة الهجرة إلى تحليلات متنوعة ومتباينة أحياناً من مجال إلى آخر. فعلى الصعيد السياسي تعكس ظاهرة الهجرة لا سيّما الهجرة القادمة من بلدان إسلامية وعربية بوجه خاص موضوعاً للتجاذب السياسي وقضية مطروحة دائماً على برامج الأحزاب والتيارات اليمينية والعنصرية في الدول الغربية، وربما غيرها أيضاً من دول شرق ووسط أوربا التي خرجت من فلك الاتحاد السوفيتي. ويصعب فصل واقع ارتفاع عدد المهاجرين إلى هذه الدول عن تنامي ظواهر الخوف والكراهية والعنصرية فيها.
وفقاً لتقرير الهجرة في العالم فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر دول العالم استقبالاً للمهاجرين الذين يبلغ عددهم فيها 51 مليون مهاجر منذ عام 1970. وتعد ألمانيا هي ثاني أكبر وجهة يقصدها المهاجرون الذين زاد عددهم فيها من 8.9 مليون شخص في عام 2000 إلى 13 مليون شخص في عام 2019، وكذلك دولة الإمارات العربية المتحدة التي تعد أكثر الدول العربية استقبالاً للهجرة إذ يصل عدد المهاجرين الأجانب فيها إلى نحو 8 مليون شخص. أما الدول المصدّرة للهجرة فيأتي على رأسها الهند التي بلغ عدد المهاجرين منها نحو 18 مليون شخص، تليها المكسيك 12 مليون شخص، ثم الصين 11 مليون شخص. وجاءت مصر في مقدمة الدول العربية المصدّرة للهجرة بعدد مهاجرين يبلغ نحو 4 مليون شخص، لكن الاعتقاد السائد والراجح أن لبنان هو الدولة العربية الأولى من حيث عدد المهاجرين منها.
أما على الصعيد الاقتصادي فإنه يمكن رؤية ظاهرة الهجرة من منظور آخر إيجابي لدول المصدر والاستقبال معاً. وبصرف النظر عن أي تأويلات لمدى استفادة الدول المستقبلة للهجرة وردود الفعل السلبية لبعض الشرائح الاجتماعية في هذه الدول في مواجهة المهاجرين الأجانب فالمؤكد أن المهاجرين يسهمون بقدر لا يمكن تجاهله في حركة النشاط الاقتصادي والخدماتي بكافة قطاعاتها لا سيّما القطاعات التي تتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً. وبخلاف ذلك فإن هناك دولاً تعتمد على نظم انتقائية للهجرة الوافدة إليها فاستطاعت أن تستقطب الكثير من المواهب والكفاءات مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وألمانيا.
يتجلّى الجانب الاقتصادي الأبرز للهجرة على صعيد التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى بلدانهم الأصلية. تأتي الهند في مقدمة البلدان المتلقية للتحويلات المالية التي بلغت 78.6 مليار دولار في عام 2018، وبعدها الصين 67.4 مليار دولار، ثم المكسيك 35.6 مليار دولار. وتأتي مصر في المرتبة الخامسة في قائمة دول العالم الأكثر استقبالاً للتدفقات المالية لمهاجريها في الخارج بحجم مالي قدره 28.9 مليار دولار في عام 2018. والملاحظ وفقاً لتقرير الهجرة هو صعود فيتنام لتحتل في عام 2018 المرتبة العاشرة عالمياً في حجم تحويلات مهاجريها العاملين في الخارج والتي بلغت 15.9 مليار دولار.
والواقع أنه لا يمكن فصل هذا البعد الاقتصادي المالي للدول المستفيدة من التحويلات المالية لمهاجريها العاملين في الخارج مثل الهند والمكسيك ومصر عن دائرة نقاش أوسع وربما أعقد تتعلق بظاهرة هجرة العقول والمواهب إلى الخارج. فهناك دراسات اقتصادية موازية ترصد التأثير السلبي لظاهرة هجرة العقول والمواهب من الدول النامية والفقيرة إلى الدول المتقدمة والغنية وما كان يمكن أن تضيفه هذه العقول والمواهب إلى مجتمعاتها الأصلية من تقدم على الصعد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية فيما لو بقيت داخل أوطانها. والحقيقة أن ظاهرة هجرة العقول والمواهب إلى الخارج تحتاج إلى نقاش متعدد الزوايا ومتنوع المحاور يصعب فيه القطع بصواب تحليل بعينه واستبعاد ما سواه، فلا يمكن إنكار تأثير التحويلات المالية للمهاجرين إلى بلدانهم الأصلية على نحو ما سبق الإشارة إليه، ولا دور هؤلاء المهاجرين في تعزيز مناخ التقارب بين الشعوب وحوار الثقافات. ثم أنه لا يمكن القطع بإمكان التوظيف الأمثل للعقول والمواهب المهاجرة في حركة التقدم العلمي والاقتصادي لو بقيت هذه العقول والمواهب داخل بلدانها الأم لأسباب شتى تحتاج بدورها إلى نقاش آخر.
أما فيما يتعلق بظاهرة اللجوء فإن الأرقام التي تضمنها تقرير الهجرة تثير التأمل وتبعث على القلق. فبحلول نهاية 2018 بلغ عدد اللاجئين في العالم 25.9 مليون لاجئ العدد الأكبر منهم (20.4 مليون شخص) مشمول بولاية مفوضية اللاجئين، و5.5 مليون لاجئ مسجلون لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وهناك أيضاً نحو 3.5 مليون شخص من ملتمسي الحماية الدولية ينتظرون إقرار صفتهم كلاجئين. ولعلّ المفارقة أن عدد اللاجئين السوريين وحدهم (6.7 مليون لاجئ) يمثل 26% من إجمالي عدد اللاجئين في العالم. أما أفغانستان التي تدور رحى الصراعات الأهلية المسلحة فيها منذ أربعة عقود فلا يمثل عدد اللاجئين المنحدرين منها سوى 10% من إجمالي عدد اللاجئين في العالم أي أقل مرتين ونصف المرة من الحالة السورية.
وأخيراً وفيما يتعلق بظاهرة النزوح فإن تقرير الهجرة يسجل إجمالي عدد النازحين (المشردين) في العالم ب 41.3 مليون شخص بنهاية عام 2018 منهم 6.1 مليون لاجئ سوري. تبلغ المفارقة أقصاها والأسى مداه حين نعلم أن عدد النازحين (المشردين) من البدان الإسلامية والعربية يناهز 22 مليون نازح أي ما يزيد على 50% من إجمالي عدد النازحين في العالم!!