ستظل قضية الترجمة من لغات الأمم المزدهرة في شتّى صنوف المعرفة والآداب والفنون إلى اللغة العربية قضية لا يتوقف الحديث عنها. لا تتوقف الأرقام عن إثارة دهشتنا وصدمتنا حين نعرف على سبيل المثال أن إنتاج الدول العربية مجتمعةً من الكتب المترجمة يبلغ نصف إنتاج إسرائيل إذ يُترجم كتاب واحد فقط تقريباً (1.2) لكل مليون عربي مقابل 100 كتاباً مترجماً لكل مليون نسمة في إسرائيل. كما يصدر كتاب واحد مترجم لكل مليون عربي مقابل 250 كتاباً مترجماً لكل مليون أسباني.
هذه وغيرها عينةٌ من الأرقام التي يوردها البحث الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (الترجمة في العالم العربي- شوقي جلال) وفيه أيضاً أن ما ترجمته 16 دولة عربية مجتمعة من عام 1970 إلى عام 1980(آنذاك كانت العراق وسوريا وليبيا واليمن دولاً مستقرة) بلغ 2840 كتاباً مترجماً أي بمعدل 284 كتاباً مترجماً في السنة. ووفقاً لإحصاء مدهش آخر فإن الكتب المترجمة على المستوى العربي لا تصل إلى أكثر من %5 من إجمالي المنشور من الكتب بينما تصل هذه النسبة في إيطاليا إلى %25 وذلك وفقاً لتقدير عام 1989 (سناء صليحة، صحيفة الأهرام، 2016/1/5)
والحقيقة أن الترجمة حاجة مشتركة للعرب والأمم الأخرى المترجم عن لغاتها. فهي للعرب حاجة معرفية وعلمية بقدر ما هي للآخرين صورة من صور التواصل الإنساني والحوار بين الثقافات. وطبقاً لفهرس اليونسكو فإن ما تُرجم إلى العربية خلال 25 عاماً (2005-1980) يبلغ 7265 كتاباً. ما زلنا نذكر كيف كان ما تضمنه تقرير التنمية البشرية في بداية الألفية الجديدة بشأن واقع الترجمة في العالم العربي مفاجأة ما زالت تتردد أصداؤها حتى اليوم. وبصرف النظر عما أثير من جدل حول الرقم المعلن (ومعظم أرقامنا مثيرة للجدل) فقد كان صعباً ومدهشاً أن نكتشف أن ما ترجمه العرب منذ عهد الخليفة المأمون حتى صدور التقرير لا يزيد عما تترجمه دولة مثل أسبانيا في عام واحد! والرقم- بفرض صحته- كاشف عن مفارقة ومثير للتساؤل. المفارقة مبعثها أن العرب كانوا هم الأسبق يوماً في ترجمة التراث الفكري لدى اليونان والإغريق وعنهم أخذ الآخرون فيما بعد! أما التساؤل فهو ما إذا كنا أقل اهتماماً من غيرنا بنشر العلم وتكريس قيمة المعرفة والانفتاح على الثقافات الأخرى؟ للوهلة الأولى الرقم المعلن يوحى بذلك. فلا يمكن إغفال دور الترجمة في الوصول الى مجتمع المعرفة.
لا يقلل من أهمية الترجمة وضرورتها ما يراه البعض من أن إجادة اللغات الأجنبية وتحديداً اللغة الإنجليزية يمثل بديلاً عنها. فالترجمة تبقى جسراً للتعرف على علوم ومعارف الآخرين والتواصل مع ثقافتهم على أوسع نطاق ممكن في ذات الوقت الذي تكفل فيه توظيف اللغة العربية وإحيائها وتطوير أدواتها لمواكبة التطور الحاصل في علوم ومعارف العصر. ثم أننا حتى بالنسبة لمن يجيدون لغات أجنبية ما زلنا أقل إقبالاً على القراءة من غيرنا. والدليل على ذلك أن متوسط عدد نسخ أية طبعة لكتاب عربي جديد في الأدب أو الفكر لا يتجاوز في أحسن الأحوال خمسة آلاف نسخة، بينما يصل هذا المتوسط داخل بلدان كفرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا إلى أكثر من مائة ألف نسخة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن متوسط عدد السكان في هذه البلدان هو 70 مليون نسمة بينما يصل عدد القراء باللغة العربية إلى 330 مليون نسمة، بعد استبعاد الأميين الذين يُقدر عددهم بنحو 95 مليون نسمة بنسبة %21 من عدد السكان وفقاً لأحدث الأرقام التي نشرتها المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (ألسكو) فمعنى ذلك أن معدل القراءة في مثل هذه المجتمعات يزيد 46 مرة على الأقل عن معدل القراءة في المجتمع العربي.
ترتبط الترجمة بعدد من القضايا والظواهر الأخرى في المجتمع العربي وعلى رأسها العزوف عن القراءة وإهمال الاستثمار في صناعة المعرفة. لكن يبدو أن السنوات الأخيرة أخذت تشهد تغيراً إيجابياً في نظرة العرب إلى قضية الترجمة. فقد زاد الاهتمام بها وانطلقت في العديد من البلدان العربية مبادرات ومشروعات متنوعة للترجمة. ولم يقتصر الاهتمام على صعيد المؤسسات الرسمية، بل تعداها إلى المؤسسات الثقافية الأهلية التي وضعت الترجمة على قائمة أولوياتها. كما خصصت العديد من المؤسسات جائزة للترجمة. كما أطلقت مؤسسة الفكر العربي في عام 2009 سلسلة كتب مترجمة تحمل عنوان “حضارة واحدة”، وكان اللافت في هذا المشروع هو توجهه شرقاً لترجمة الكتب الصينية والهندية.
السؤال الآن هو ماذا بعد الترجمة؟ وهل حققت حركة الترجمة المتزايدة على يد مؤسسات عربية رسمية وأهلية الأهداف المرجوّة منها؟ وكيف السبيل لأن تصبح الترجمة أداة فاعلة لتكريس مجتمع المعرفة ودفع الحوار بين الثقافات؟ ربما كان علينا في الواقع أن نتجاوز اليوم هذا الجهد النظري والخيري أحياناً في مجال الترجمة لننتقل إلى جهد موازٍ من نوع آخر يعزز ويكمل دور الترجمة. ولعل هذا الجهد الكفيل بتحقيق القيمة المضافة للترجمة يتطلب ما يلي:
أولاً- أن تنتقل الإصدارات المترجمة من أرفف المعارض والمكتبات إلى أيدي الناس! فالملاحظ أن معظم الكتب المترجمة التي تتوالى عناوينها وتتزايد أعدادها غالبا ما ينتهي بها المطاف إلى مخازن المرتجعات دون أن يعلم بها أو يستفيد منها الكثيرون. ومن هنا فلا مناص من ابتكار وسائل جديدة لكي تصبح الكتب المترجمة في أيدي الجمهور الأكثر احتياجاً لها والأقل قدرة على شرائها، وهم بصفة أساسية الشباب في الجامعات والمدارس الثانوية، إما من خلال فتح منافذ جامعية جديدة لها، أو إهدائها إلى الطلاب المتفوقين في الكليات والمعاهد، أو عن طريق عرضها للبيع بثمن زهيد. فالواقع أن الجمهور الذي تصل إليه الكتب المترجمة هو الذي يقتنيها في الغالب بلا مقابل، أو يدفع فيها ثمناً لا يمثل لديه أدنى عبء مادي. أما معظم الشباب المتعطش للقراءة فهو المرهق بثمن الكتاب المرتفع وسط ظاهرة الغلاء المستشري في معظم البلدان العربية.
ثانياً- ضرورة خلق حالة من النقاش والحوار حول مثل هذه الكتب المترجمة من خلال ندوات تستضيفها ليس فقط المؤسسات الثقافية على اختلافها، بل أيضاً البرامج الثقافية في الفضائيات التي تزدحم بها سماؤنا العربية! فالملاحظ أنه ليس لدينا حتى الآن برنامج تلفازي أسبوعي أو شهري يخصص لمناقشة الكتب الجديدة والمترجمة في حوار يجمع بين المؤلف والناقد والقارئ على غرار ما نشاهده من برامج ممتعة وجادة في المحطات الاجنبية. إن نقل الثقافة الجادة من أرفف المكتبات وصفحات الكتب إلى شاشات الفضائيات هو أحد تحديات المرحلة. فقد آن الأوان لكيلا تبقى قضايا الفكر والثقافة والتنمية حكراً على المتخصصين والنخبة فقط. إن طريق النهضة الثقافية وإتاحة المعرفة للجميع يمر أيضاً من هنا!