يتكدّس أكثر من مليار إنسان على ضفاف 3 أحواض نهرية فقط من مجموع 286 حوضاً نهرياً في العالم، والأحواض النهرية هي تلك المساحة الأرضية التي تضُم مجرى النهر وشبكة أوديته وروافده وفروعه المختلفة وتضم مناطق منابع النهر ومصبّه أيضاً، وتمتد أحواض الأنهار العابرة للحدود في العالم عبر 151 دولة، يتوطن فيها أكثر من 3.3 مليار شخص أي حوالي 42% من سكان العالم، وتُغطّي تلك الأحواض أكثر من 62 مليون كم2، أي ما يزيد على %40 من مساحة اليابسة على الأرض المُقدّر إجماليها بـ 149 مليون كم2 حسب بيانات “تقييم المياه العابرة للحدود”TWAP” التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة
ظاهرة التضخّم أو الاكتظاظ السكاني على ضفاف الأنهار أضحت ظاهرة تسترعي الانتباه لما يحوطها من مخاطر مُحدقة مُتعددة الأوجه لاسيما تجريف الأراضي الزراعية وتبويرها وما يستتبعه ذلك من انخفاض مُعدل الزراعة في الدولة بالتزامن مع الزيادات السكانية المتتابعة، كذلك انحسار المجاري والروافد النهرية وتقلُصها، وهو أحد أسباب الإجهاد المائي الذي قد يؤدي إلى تشريد ما يُقدّر بنحو 700 مليون شخص بحلول عام 2030 بحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة»FAO»، بالإضافة إلى تهديد النظام الأيكولوجي الذي يهدف إلى الحفاظ على التوازن البيئي للنباتات والكائنات الحية بداخل تلك الأنهار، وأخيراً تلوث المياه الذي يتناسب طردياً مع زيادة المخلفات الصناعية والزراعية في الأنهار بسبب الأنشطة البشرية المتراكمة المصحوبة بزيادة كبيرة في عدد السكان.
تقع الـ 3 أحواض النهرية الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم وهم (حوض نهر النيل، حوض نهر السِند، حوض نهر الغانج) في قارتي أفريقيا وآسيا، حيث يقطن 704 مليوناً و221 ألف نسمة على ضفاف نهر الغانج الذي يقع في الهند ليحتل المرتبة الأولى من حيث الكثافة السكانية، ثم يليه في المرتبة حوض نهر السِند الذي يسكُن على ضفافه 189 مليوناً و912 ألف نسمة، وفي المرتبة الثالثة حوض نهر النيل الذي يقطُن بين جنبات روافده التي تمر بـ 11 دولة، 174 مليوناً و365 ألف نسمة. ليس من المُستغرب أن تتمركز الكثافة السكانية على ضفاف نهريّ شبه القارة الهندية التي يبلغ عدد سكانها 1.7 مليار نسمة، وهو ما يزيد على سكان قارة أفريقيا بأكملها بنحو 400 مليون نسمة، والذي بلغ عددهم 1.3 مليار نسمة في 2020 حسب بيانات البنك الدولي.
تلك الكثافة السكانية على ضفاف نهريّ الغانج والسند ليس لهما علاقة بمساحة حوض النهر ذاته وإنما بالطبيعة الجغرافية لكل نهر على حدة، فمن حيث المساحة نجد أن أكبر الأحواض هو حوض نهر النيل بمقدار 3.4 مليون كم2، يليه حوض نهر السند بمقدار 1.16 مليون كم2، ثم أخيراً الغانج بمقدار 1.32 مليون كم2. أما من حيث الطبيعة الجغرافية فهناك إمكانية لتنفيذ الأنشطة البشرية بين روافد تلك الأنهر الثلاثة وهو عامل لا يُمكن غضّ الطرف عنه في زيادة وسيولة الزحف السكاني نحو محيطهم، هذه الخاصية التي لا يتمتع بها نهر الأمازون على سبيل المثال، ذاك النهر الذي يسكن على ضفافه ما يقرُب من 26 مليون شخص فقط رغم كونه الأول من حيث ضخامة حجمه عالمياً إلا أن الغابات الاستوائية المطيرة والكثيفة المحيطة بالنهر والتي تبلغ مساحتها 5 ملايين و500 ألف كم2 تجعل من الصعب بمكان الاكتظاظ السكاني حوله.
تداعيات التضخم السكاني على نهريّ السند والغانج جعلت منهما أكثر أنهار العالم تلوثا وسُميّة لما تحتويان نفاياتهما على خليط كبير من النفايات المنزلية والصناعية بالإضافة إلى مياه الصرف الصحي الناتجة عن الضغوط المتزايدة المستمرة عليهما.
التضخم السكاني في حوض نهر النيل له تداعياته السلبية كذلك، لا سيما على الأراضي الزراعية التي أُهدرت في مصر والمُقدرة بنحو 299 ألف فدان أي 1210 كم2 في قرابة 35 عاماً حتى 2018 بحسب تقرير أعدته الإدارة المركزية لحماية الأراضي بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي المصرية، منها 160 ألف فدان تعديات، و57 ألف فدان لإقامة مشروعات عامة وخاصة، و82 ألف فدان للحيز العمراني، هذه المساحة في حقيقتها تزيد على مساحة بعض الدول لا سيما هونج كونج التي تبلغ مساحتها 1104 كم2، والبحرين التي تبلغ مساحتها 780 كم2 وغيرهما، ورغم مضاعفة مساحة الأراضي المنزرعة في نفس الفترة الزمنية تقريباً لتصل إلى ما يجاوز 10 مليون فدان في 2019 مقارنة بـ 5 مليون و943 ألف فدان في 1985 بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلا أنه لازالت المساحة المنزرعة تمثل %3.35 من مساحة مصر الكلية بحسب بيانات البنك الدولي، ولا زال أكبر تهديد لها هو الاكتظاظ السكاني حول نهر النيل الذي يُمثل %5 من مساحة مصر الكلية ويلتف حوله أكثر من %95 من سكانها البالغ عددهم 102 مليون و683 ألفا وفق أحدث الإحصائيات.
لم يكن بوسع المرء أن يُجادل في مدى أهمية قرب السكان من الأنهار في العهود السابقة لاعتبارها ضرورة حياتية وأحد سُبل العيش سواء باستخدامها في الشُرب أو الزراعة أو الصناعة أو الاستخدام المنزلي وغيرها، إلا أنه لا يُمكننا اليوم ونحن نعيش عصر غلبت عليه التكنولوجيا التذرّع بالحجج ذاتها، إذ أصبح من اليسير توصيل المياه عبر محطات الرفع إلى أكثر الأماكن بُعداً عن الأنهار، فضلاً عن سهولة معالجتها وتخزينها. وترك أحواض الأنهار خالية إلى حدٍّ ما من السكان لتعزيز الرقعة الخضراء وزيادة المساحة المنزرعة، ليس فقط للحفاظ على نقاء النظام البيئي الطبيعي، وإنما لتحقيق الأمن المائي والغذائي وكلاهما مقصدين شديدين الأهمية. فربما استمرار الزحف السكاني نحو الأنهار بصفة عامة والأنهار الثلاثة سالفي الذكر بصفة خاصة ينذر بخطر قد يُهدد البشرية في الوقت الذي يتوقع فيه أن يصل عددهم إلى 11,2 مليار نسمة في الـ 80 سنة المُقبلة بحسب بيانات شعبة السكان بالأمم المتحدة.