لا يكف ملف التعليم وسوق العمل عن إثارة الجدل وطرح العديد من التساؤلات في مصر والعالم العربي. في هذا النقاش توجد رؤيتان الأولى تدعو إلى ترشيد أعداد الملتحقين به بما يستجيب لمتطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل. والثانية تطالب بالتوسع في التعليم الجامعي ورفع معدلات الالتحاق به. والمفارقة أن كل رؤية تستند إلى مجموعة من الإحصاءات والأرقام التي تدعمها.
وفقاً للرؤية الأولى من المفارقة أن نكتشف أن متوسط معدل البطالة لدى الأميين والحاصلين على مؤهل أقل من المتوسط يبلغ %6.3 من مجموع العاطلين بينما يقفز إلى %31.4 لدى الحاصلين على مؤهل جامعي وفوق الجامعي بحسب ما يُستخلص من بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. أما في بلد مثل بريطانيا فإن الوضع يبدو معكوساً حيث تقل نسبة البطالة لدى خريجي الدراسات العليا إلى %11.8 بينما ترتفع هذه النسبة إلى %29 تقريباً لخريجي التعليم قبل الجامعي.
أما الرؤية الثانية فتنطلق من الاعتراض على تقييد سياسة الالتحاق بالتعليم الجامعي بحجة سوق العمل إذ ليس من العدل حرمان شاب من الالتحاق بكلية معينة لأن نقابة مهنية تطالب بتقليل أعداد الملتحقين بها لتشبع السوق. ويرى البعض في الحالة المصرية مثلاً أن سوق العمل يتجاوز الحدود الجغرافية لمصر وأن خريجى الجامعات لدينا مطلوبون أيضاً فى سوق عمل دولى واسع (عربى وأوربى) وهو بعد هام لا يمكن تجاهله لا سيما حين نعرف أن تحويلات المصريين في الخارج قد بلغت 24 مليار دولار في التسعة أشهر الأخيرة من عام 2021 وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري لتحتل مصر بذلك المرتبة 5 عالمياً في تحويلات العاملين بالخارج. يضاف الى ذلك أن خريجى الجامعات الذين نطالب بالحد من أعدادهم اليوم يمكن أن يكونوا هم أنفسهم خالقى فرص عمل لغيرهم فى المستقبل. وعلى أية حال يبقى السؤال مطروحاً فى مصر وخارج مصر على حد سواء هل يمكن ان يكون ارتفاع البطالة لتشبع السوق مبرراً للحد من أعداد الملتحقين بالتعليم الجامعى؟ الواقع يؤكد ان البطالة موجودة فى كل المجتمعات بنسب متفاوتة لكن ذلك لم يكن سبباً لأن تحد هذه المجتمعات من فرص التعليم الجامعى للشباب.
هنا يبرز السؤال هل تشبع السوق فى مجال معين او افتقاره لمهارات لا يوفرها التعليم الجامعى بوضعه الحالى فى مجال آخر يعد مبرراً للحد من أعداد الملتحقين بالتعليم الجامعي؟ هناك مؤيدون ومعارضون. محك الاختلاف بين الرأيين هو نسبة البطالة المرتفعة فى المجتمع المصرى. للوهلة الأولى يبدو الرأي الأول محقاً بشأن ظاهرة البطالة وسياسة الالتحاق بالتعليم الجامعي. وتبلغ نسبة البطالة وفقا لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء %7.5 خلال الربع الثالث من عام 2021. المقلق أن نسبة البطالة لدى خريجى الجامعات تفوق بكثير نسبة البطالة لدى غيرهم، لكن المطالبين برفع معدلات الالتحاق بالتعليم الجامعي يرون أن كل دول العالم تعاني من بطالة خريجي التعليم الجامعي دون أن يدفعها هذا إلى الحد من فرص الالتحاق بالتعليم الجامعي، ففي كوريا الجنوبية التي كانت تبلغ نسبة البطالة فيها منذ عدة سنوات %4 تضمن الدولة فرصة الالتحاق بالتعليم الجامعى لكل 90 من مائة شاب فى سن التعليم. وفى فنلندا التى تبلغ نسبة البطالة فيها 6,5 % تضمن الدولة فرص التعليم الجامعى لكل 91 من مائة شاب فى سن التعليم. وفى إسبانيا التي تعاني من نسبة بطالة قدرها 8,7 % وهي نسبة تقارب الرقم الرسمى المعلن فى مصر فإن معدل الالتحاق بالتعليم الجامعي هناك يبلغ %66. أما فى الحالة المصرية وحيث تبلغ نسبة البطالة %7.5 فإن معدل الالتحاق بالتعليم الجامعي لا يزيد عن %36 بحسب تصريح وزير التعليم العالي المصري في سبتمبر 2021. ما نخلص اليه من هذه المقارنات ان ظاهرة البطالة وتشبع سوق العمل لم تدفع الدول المتقدمة الى تقليل اعداد الملتحقين بالتعليم الجامعى.
ومع ذلك فالأرقام السابقة قد تغيرت في الآونة الأخيرة حيث يلاحظ أن الكثير من دول العالم تراجع باستمرار سياساتها التعليمية. فكوريا الجنوبية إحدى أكبر اقتصادات العالم انخفض فيها معدل القبول في الجامعات من 90 لكل مائة نسمة في سن التعليم الجامعي إلى 80 لكل مائة في السنوات الأخيرة إثر مراجعات تمت لسياسة التوسع الهائل في القبول بالجامعات، وفي ألمانيا إحدى أكبر القلاع الصناعية في العالم يلتحق بالجامعات 53 شاباً فقط لكل مائة نسمة مقابل نظام لمدارس التكوين المهني هي الأوسع والأكثر تطوراً في العالم، وفي الهند الصاعدة صاحبة خامس أكبر اقتصاد عالمي بإجمالي ناتج محلي بلغ 2 تريليون و800 مليار دولار في 2018 لا يلتحق بالجامعات فيها سوى 27 فقط لكل مائة نسمة مقابل 35 لكل مائة نسمة في مصر. اليابان نفسها لا يتجاوز معدل القبول في الجامعات فيها 61 لكل مائة نسمة في سن التعليم الجامعي.
دلالة الأرقام السابقة أن سياسات التصنيع في مصر وملاحقة حركة التقدم الاقتصادي العالمي تعتمد بالأساس على عمالة ذات تأهيل مهني جيد وتدريب مستمر لا ينقطع بأكثر مما تتطلب سياسة التحاق بالجامعات عشوائية وغير مدروسة وغير متكاملة مع أهداف التنمية واحتياجات سوق العمل، خصوصاً في ظل واقع تعليم الكم لا النوعية والجودة. يكفي أن نعرف أنه بالنسبة لخريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون على سبيل المثال توجد فرصة عمل واحدة لكل ستة أو سبعة خريجين باعتبار ان عدد خريجي عام 2018 وفقاً لتقدير جهاز التعبئة والإحصاء بلغ 58 ألف خريج بينما لا يتجاوز احتياج سوق العمل القانوني سنوياً أكثر من 10 آلاف متخرج في أفضل الأحوال. والمثال قابل للتعميم في تخصصات أخرى غير القانون.
والواقع أنه يصعب لبلد يسعى إلى التصنيع ومضاعفة حجم صادراته أن يعتمد على نظام تعليمي يختار فيه 8 من كل عشرة طلاب الدراسات الاجتماعية والنظرية مقابل 2 يقدمان على دراسة العلوم التطبيقية والبحتة (pure sciences))
وفي الأحوال كافة فإن القياس على واقع الآخرين غير جائز لسببين أولهما أن المعدل المرتفع للالتحاق بالتعليم الجامعي في الدول الأخرى لم يكن أبدأً على حساب الجودة التعليمية، وهو الأمر الذي يخالف واقع الحال في مصر والعالم العربي لأن تواضع إن لم يكن تدنى مستوى التعليم الجامعي إنما يرجع بالأساس الى الزيادة الهائلة وغير المعقولة لأعداد الملتحقين بهذا التعليم. السبب الثانى ان قبول هذه الاعداد الكبيرة فى جامعات الدول المتقدمة لم يمنعها من تطبيق المعايير والضوابط اللازمة لحسن توظيف وترشيد هذه الاعداد الكبيرة، وهو ما لا نجده أيضاً في بلادنا حيث لا وجود لمعايير أو ضوابط لتنظيم هذا النسل الجامعي المتزايد الذي لم يضمن لا تثقيفاً ولا اكتساباً حقيقياً لمهارات سوق العمل.