تُغطّي المياه حوالي %70 من سطح الأرض، %97 نصيب المحيطات والبحار منها، يعيش %40 من سكان العالم على سواحلها ويساهمون بما مقداره 1.5 تريليون دولار سنوياً من الاقتصاد العالمي تصل إلى 3 تريليون دولار في 2030 بحسب “مؤتمر الأمم المتحدة للمحيط -يونيو 2022”. يُستخرج من هذه المحيطات 79 ملايين طن أسماك مقابل 11.5 ملايين طن من المياه العزبة و87.5 ملايين طن استزراع سمكي يستهلكها 3.2 مليار شخص سنوياً، وتقدر منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” عدد العاملين في صيد الأسماك بشكل مباشر بنحو 60 مليون إنساناً، ويعتمد 600 مليون شخص بشكل غير مباشر على مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية. الأرقام السابقة لا تعكس سوى القليل من أهمية المحيطات في عالمنا فعلى مستوى الطاقة تُساهم سنوياً بما مقداره %40 من النفط العالمي، ويُستخرج منها 1/3 الإجمالي العالمي من الغاز الطبيعي تقريباً، فضلاً عن ذلك فالمحيطات أكبر درع واقي ضد التغيرات المناخية إذ تفرز %50 من الأكسجين الذي نحتاجه، وتمتص %25 من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتلتقط %90 من الحرارة الناتجة عن تلك الانبعاثات. أضف إلى ذلك سوق السياحة البحرية التي سجلت إيراداته 58 مليار و900 مليون دولار أمريكي في 2019 والمتوقع نموه بنسبة %6.8 ليصل إلى 81 مليار و800 مليون دولار في 2024 بحسب تقرير سوق السياحة البحرية 2019.كل هذه الأرقام رغم أهمية دلالاتها إلا أنها لا تعطي تصوراً دقيقاً لحقيقة المشهد الذي تلعب فيه البحار والمحيطات دور البطل، إذ لازال هناك حجم هائل من الثروات المعدنية كامن في قيعانها قد تكون هي الملجأ الوحيد في يوم ما لاستمرار عجلة التصنيع دون توقف بعد أن تنضب تلك المعادن في البر بالتزامن مع ارتفاع الطلب عليها من %5 إلى %10 سنوياً لإمكان سّد متطلبات التصنيع لسكان العالم الذين يضطرد عددهم بشكل مستمر والمُقدّر وصوله إلى 8.5 مليار نسمة في 2030 بحسب الأمم المتحدة. فضلاً عن استئثار الصين منفردة على ما يُقارب %40 من المعادن عالمياً في 2020 بحسب أحدث بيانات لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية(USGS).
تُقسم المياه من حيث العمق إلى 4 مستويات(الشكل رقم1)، الأول المياه الضحلة والتي تبدأ من سطح البحر حتى عمق 200 متر فقط أي 650 قدم ويسمى بالبحر المفتوح، يليه المياه متوسطة العمق ما بين 200 و1000 متر أي 3300 قدم من سطح البحر، ثم المياه العميقة ما بين 1000 إلى 4000 متر أي 13000 قدم من سطح البحر، أخيراً مياه العمق السحيق بعمق يزيد على 4000 متر حتى الجبال والأخاديد والتلال اليابسة الراسخة في قيعان البحار المحيطات (أرضية المحيطات) والتي تعِجّ بثروات المعادن الثمينة مثل الفضة، الذهب، النحاس، المنجنيز، الكوبلت، والزنك، وغيرها من المعادن.
تشير التقديرات الأوليّة بحسب باحثي «منظمة السلطة الدولية لقاع البحار-IAS» التابعة للأمم المتحدة إلى وجود نحو 10 مليارات طن من المعادن في قيعان البحار والمحيطات «%30 منها منجنيز، و%1.5 نيكل، و%1.5 نحاس، و%0.3 كوبالت»، ويدخل المنجنيز بلا شك في صناعات مُهمّة للغاية لاسيما في صناعة الحديد الصلب والبطاريات الجافّة والزجاج ويدخل كذلك كأحد مكونات السماد المستخدم
للزراعة، أما معدن النيكل فيستخدم في صناعة البطاريات القابلة للشحن وصناعة العُملات المعدنية والفولاذ المقاوم للصدأ، وتتعدد كذلك استخدامات النحاس لا سيما في صناعة المولدات الكهربائية وأسلاك الكهرباء التي تستحوذ على %40 من إنتاجه عالمياً كما أنه يدخل بنسب متفاوتة في الذهب وصناعة السبائك البرونزية وغيرها من الصناعات. أما الكوبالت يستخدم في صناعة المغانط التي تستخدم في أجهزة التلفاز كما يدخل في صناعة التوربينات والمحركات النفاثة لمقاومته كمعدن لدرجات الحرارة المرتفعة، وتكفي احتياطيات تلك المعادن أيضاً في منطقة واحدة فقط لتشغيل بطاريات 280 مليون سيارة تعمل بالكهرباء وهي منطقة «كلاريون كليبرتون-Clarion-Clipperton» في شمال شرق المحيط الهادئ.
وحول العوائد المالية من التنقيب المعدني في قيعان البحار والمحيطات، فإنه سيتراوح مبدئياً بين 3.5 إلى 5 مليارات دولار سنوياً، وتُقدّر عوائد معدن الذهب المتوافرة إلى ما يُقارب 150 تريليون دولار، أي ما يوازي 21 ألف دولار لكل فرد من سكان الكرة الأرضية. تزيد توقعات العوائد المالية كُلّما اتسع نطاق ومساحة عمليات التنقيب، إذ إن عمليات التنقيب الجاري تنفيذها يبلُغ عددها 29 عملية فقط حتى الآن، تُغطي أكثر من 1.3 مليون كم2 من قيعان المحيطات، 19 منها في حوض المحيط الهندي الأوسط وغرب المحيط الهادئ لاستكشاف «العقيدات متعددة الفلزات» وهي مجموعة من المعادن المختلفة من بينها المنجنيز والنيكل والنحاس، وهناك 7 عمليات تنقيب في جنوب غرب ووسط الهند ووسط المحيط الأطلسي لاستكشاف «الكبريتيدات المتعددة الفلزات» وهي مجموعة متنوعة من المعادن الحاوية على عنصر الكبريتيد مثل النحاس والرصاص والزنك والفضة، و5 عمليات لاستكشاف القشور الغنية بالكوبالت والبلاتين في غرب المحيط الهادئ بحسب بيانات السلطة الدولية لقاع البحار(IAS) لعام 2022.
رغم أهمية التعدين في قيعان البحار والمحيطات إلا أن ثمّة مخاوف وشكوك قد تدعو للانتباه لا سيما التأثير السلبي على البيئة البحرية، وفقدان التنوع البيولوجي، وموت بعض الكائنات الحية، وإزالة الشعاب المرجانية، وغيرها من المخاطر التي ربما لا تمس فقط البيئة البحرية وإنما تمتد لنشوب نزاعات محتملة بين الدول على ما يستخرج منها من ثروات ليكون المسار الوحيد لتجنب هذه النزاعات هو التوزيع العادل لها.
من المجحف بمكان الاستناد على المعيار الجغرافي في توزيع الثروات المعدنية المستخرجة من قيعان البحار والمحيطات فتستحوذ عليها الدول الساحلية، وُتحرم منها الدول الحبيسة المُحاطة باليابسة من جميع حدودها والذي يبلغ عددها 49 دولة عالمياً، يُمثلون %7 من سكان العالم، يتركزون في 3 قارات، 16 دولة منهم في أفريقيا، و15 دولة في آسيا، و14 دولة حبيسة في أوروبا. ومن ناحية أخرى إذا اعتبرنا أن كل دولة لها حق مساوٍ لكل دولة أخرى في استخراج الثروات المعدنية من قيعان البحار والمحيطات واستغلالها وفقاً لمعيار المساواة في السيادة ما بين الدول في البحر العام، فإن ذلك لا يخلو أيضا من إجحاف وبخاصة للدول النامية التي يبلغ عددها 128 دولة من بينهم 16 دولة عربية، والتي لا تملك القدرة الفعلية سواء المادية أو التكنولوجية على استخراج واستغلال تلك الثروات، فالمساواة المطلقة بين الدول هي عين اللامساواة. مسوغات العدالة إذن تقتضي إعمال التشاركية الحقّة باعتبار أن تلك الثروات هي تراثاً للإنسانية جمعاء، جدير بالذكر أن السلطة الدولية لقاع البحار(IAS) منذ إنشائها في نوفمبر 1994 وهي مسؤولة بحسب ميثاقها عن التنقيب والاستكشاف والاستغلال وتنمية موارد قيعان البحار والمحيطات بالتنسيق مع الدول والشركات الكبرى المتخصصة في ذلك، فهل تضطلع لتحقيق دور ريادي يضمن حقوق الدول النامية أم تُنهكها الضغوط والسياسات فتميل عن ذلك؟ هذا ما سوف يكشفه لنا المستقبل القريب!
الرئيسية نشرة رقم عدد أغسطس 2022