“صِفر انبعاثات” يُقصد بهِ خفض انبعاثات الغازات الدفيئة إلى أقربِ مستوى ممكن من الصِفر، وهي تشمل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز وسداسي فلوريد الكبريت، مع إعادة امتصاص أي انبعاثات مُتبقيّة من الغُلاف الجوّي بحسب تعريف الأمم المتحدة التي تُقدّر الوصول إلي صِفر انبعاثات بحلول عام 2050 لإمكانية حصر الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية وحماية المناخ من التغيّر. فكيف يكون الهيدروجين الأخضر أحد سُبل تصفير الانبعاثات؟!
الهيدروجين الأخضر في حقيقته هو مصطلح مُكوّن من شِقّين، الأول هو “الهيدروجين” باعتباره أحد العناصر الكيميائية التي تُستخدم في مجالات عديدة وحيوية لا سيّما كوقود نظيف بديلاً للنفط، وبديلاً كذلك للغاز الطبيعي المُستخدم لأغراض الطبخ وتدفئة المنازل، فضلاً عن دخوله في صناعات أخرى مُتعددة. أما الثاني هو “الأخضر” ويُشير هذا المصطلح إلى طريقة انتاج الهيدروجين، والتي تتِم من خلال تحليل جزيئات الماء كهربائياً بواسطة طاقة متجددة (مثل الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة الهيدرومائية) لفصل الهيدروجين عن الأوكسجين، هذه الطريقة المبتكرة تجعل من الهيدروجين طاقة نقيّة تماماً خاليةً من الكربون فلا ينبعثُ منه غازات مُلوّثة سواء أثناء الاحتراق أو أثناء الإنتاج. وهو ما يُميّز الهيدروجين الأخضر عن نظيره الرمادي، ذلك المُستخرج عن الوقود الأحفوري لا سيما الفحم والغاز الطبيعي المُسببان للانبعاثات المؤثران في تغيّر المناخ.
تتبدّى أهمية الهيدروجين الأخضر بتتبّع ما تُشير إليه الأرقام والاحصاءات من خلال 3 محاور متباينة، ألا وهم تطور عمليات البحث العلمي المتعلقة به أولاً، ثانياً حجم الطلب العالمي ونسبته من الاستخدام العالمي للطاقة، ثالثاً قيمته السوقية. فعلى مستوى البحث العلمي شغل الهيدروجين الأخضر بال الأفراد والمؤسسات البحثة والتمويلية في الآونة الأخيرة، إذ تُشير الدراسات إلى أنه تم نشر 642 بحثاً عن الهيدروجين الأخضر في دوريات علمية مُصنّفة عالمياً ساهم فيهم ما مجموعه 2809 مؤلِفاً في 6 سنوات بين عامي 2016 و2021، غير أن العام الأخير استحوذ منفرداً على 390 بحثاً شارك فيهم 1686 مؤلفاً، بإجمالي اقتباسات بلغ 3578 اقتباساً مقابل 25 بحثاً في عام 2016 ساهم فيها 92 مؤلِفاً بمجموع 8 اقتباسات فقط. أي أن عمليات البحث العلمي المتعلقة بالهيدروجين الأخضر قَفَزت بما مقداره 16 مرّة في 6 سنوات فقط. جدير بالذكر أن السواد الأعظم من الاستشهادات العلمية انحصر بين 6 دول وهم انجلترا وكندا والصين ووكوريا الشمالية وألمانيا وفرنسا، غير أنه لا زالت فرصة البحث العلمي في آليات انتاج واستخدام وتطوير تكنولوجيا الهيدروجين الأخضر مُتاحة ومساوية بين دول العالم كافة وهو ما يضعها في إطار تنافسي داعِم للابتكار وإيجاد السُبل نحو تعظيم هذا النوع الجديد من الطاقة النظيفة، فالبحث العلمي أول ما تتسلح به الدول حتى تجد مكاناً لها بين الكبار.
أما بخصوص حجم الطلب العالمي للهيدروجين الأخضر فإنه سيبلُغ 287 ميجا طن في 2050 بحسب الوكالة الدولية للطاقة(IEA) ليستحوذ وقتئذ على ما مقداره 25% من الاستخدام العالمي للطاقة بحسب وكالة بلومبرج، ويتنوّع الطلب على الهيدروجين الأخضر عالمياً وفق قطاعاته المختلفة ليكون قطاع النقل هو صاحب نصيب الأسد بين القطاعات الأخرى بما مقداره 66.5 ميجا طن، بينما سيستحوذ القطاع الصناعي على 62.9 ميجا طن ليأتي تالياً، وفي المرتبة الثالثة قطاع الطاقة بإجمالي 55 ميجا طن، أما الوقود الصناعي ستكون حصته من الهيدروجين الأخضر 40.8 ميجا طن. بينما سيستحوذ قطاع البناء والتشييد على 26.6 ميجا طن، وسيجيئ في المرتبتين الأخيرتين كل من قطاعي التكرير وإنتاج الأمونيا ليستحوذ كل منهما على 16.9 و18.3 ميجا طن على التوالي.
أما من حيث القيمة السوقية للهيدروجين الأخضر -وهو المحور الثالث- فبلغت نحو 2.14 مليار دولار أمريكي في عام 2021. وهي تشكل ما نسبته 0.1٪ فقط من إنتاج الهيدروجين العالمي، ولكن بحلول عام 2031، أي في خلال عقدٍ واحدٍ فقط، من المُتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 135 مليار دولار أمريكي، بمُعدل نمو سنوي مُركب قدره 51.6% بين العامين، وهو ما سيمثّل نموًا يزيد على 6000% بحسب ستاتيستا(statista)، وهي قفزة نوعية مُشجّعة للدول والشركات تدفعها نحو الاستثمار في هذا النوع من الهيدروجين النقيّ.
تحوُّل الدول إلى الهيدروجين الأخضر طريقاً ليس خالٍ من الشوك، فالمعوقات تُحيطهُ من جوانب عديدة، غير أن أثقلها هي التكلفة التي ينفقها إنتاج كل كيلوجرام واحد منه وهي تختلف من دولة إلى أخرى فعلى سبيل المثال، يتراوح إنتاج كيلوجرام هيدروجين أخضر في اليابان ما مُتوسطه 6.25 إلى 6.5 يورو في 2020 وهي التكلفة الأعلى عالمياً، بينما تنخفض هذه القيمة بفضل تطوير تكنولوجيا الانتاج إلى ما مُتوسطه 3.75 إلى 4 يورو في عام 2030 وتبلغ قيمة الانتاج أقصى انكماش لها في 2050 ليكون مُتوسطها 2.5 إلى 2.75 يورو. في المقابل فإن أقل الدول انفاقاً على انتاج الهيدروجين الأخضر هي تشيلي ليتراوح انتاج كيلوجرام واحد منه ما مُتوسطه 2.5 إلى 3.75 يورو ويصل إلى أدنى مستوى للتكلفة في 2050 ليبلغ 1 إلى 1.25 يورو فقط لكل كيلوجرام هيدروجين أخضر وفق الشكل رقم -1. الأمر الذي يُنبئ بتغيير مُحتمل لخريطة انتاج الطاقة في العالم ليدخل على الساحة لاعبين ومنافسين جُدد، إلا أنه بالمقارنة نجد أن انتاج كيلوجرام واحد من الهيدروجين الرمادي المُلوِّث للبيئة حوالي دولار أمريكي واحد فقط في 2021، مما يجعل بعض الدول تتراخي في تنفيذ التزاماتها تجاه “صافي صفر انبعاثات” كيلا تتحمّل اقتصاداتها فوارق التكلفة بين الاثنين.
الشكل رقم-1
انحصرت الغالبية العظمى من مشروعات إنتاج الهيدروجين الأخضر القائمة بالفعل حتى عام 2022 بين 10 دول وهم على التوالي، أستراليا بمجموع 96 مشروعاً، وألمانيا وأسبانيا بمجموع 50 مشروعاً لكل منهما، ثم هولاندا 48، وإنجلترا 46، وأمريكا 37، وروسيا 36، والبرتغال28، والصين 26، وأخيراً تشيلي بمجموع 22 مشروعاً بحسب ستاتيستا(statista)، وفقاً الشكل رقم-2. تجدر الإشارة إلى أن هناك 9 دول عربية وقعّت استراتيجيات لإنتاج واستخدام الهيدروجين الأخضر ليكون مجموع المشروعات المزمع انشائها 34 مشروعاً وهم مصر، والإمارات، والسعودية، والمغرب، وعمان، والعراق، والجزائر، وقطر، وموريتانيا.
لا شك أن الهيدروجين الأخضر مُؤهل بقوة ليصبحَ أحد السُبل الداعمة لتحقيق صافي انبعاثات صِفرية، بعد أن ارتفع منحنى هذه الانبعاثات إلى أقصاه، فعلى سبيل المثال بلغ حجم الانبعاثات العالمية لثاني أكسيد الكربون من الوقود الأحفوري 36.3% حتى مارس 2022 بحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية (IEA)، هذه الزيادة المُضّطردة للانبعاثات الكربونية لا تتوقف بل ورُبما تتفاقم مع إطالة أمد الغزو الروسي لأوكرانيا والتي دفعت بعض دول أوروبا للشروع مُجدداً في استخدام الفحم بغرض توليد الطاقة نتيجة لخفضِ صادرات الغاز الروسي لتلك المنطقة. كما من المتوقّع أن يرتفعَ استهلاك الفحم في الاتحاد الأوروبي بنسبة 7% في عام 2022 بالإضافة إلى قفزة العام الماضي البالغة 14%. إدماج الهيدروجين الأخضر إذن في اقتصادات الدول عامة والدول النامية والإتحاد الأوروبي خاصة قد يكون ملاذاً لتحقيق ثلاث غايات متماثلة في أهميتها وهم أولا الالتزام الدولي بصافي انبعاثات صفري في الموعد الحتمي المتفق عليه أُممياً من 193 دولة وهو عام 2050، أما الثاني هو المحافظة على الرفاه الاجتماعي لمواطني الدول من خلال استخدام الهيدروجين الأخضر في الاستعمال الصناعي والمنزلي وإحلاله محل الطاقة الناتجة عن مصادر أحفورية، ثالثاً وأخيراً هي فرصة نتمناها غير ضائعة للدول النامية في أن تكون جزءاً المشهد العالمي لإنتاج الطاقة النظيفة وما يترتب عليه من تحقيق التنمية المستدامة لشعوبها.