من المتوقع أنه بحلول 2030 سيكون بمقدور أي شخص من 7 مليارات شخص أو اكثر على الأرض في ذلك الوقت، أن يتلقى إشارة قادمة من شبكة فضائية مكونة من 42 الف قمرا صناعيا منخفض المدار، وتسمح له الإشارة بالاتصال بالإنترنت بصورة سريعة مستقرة، عبر طبق اتصال صغير الحجم، مرتبط به جهاز اتصال دقيق، يتخطى كل عقبات الاتصال الحالية، وذلك كله بتكلفة رخيصة أو معقولة.
هذا التوقع ورد في الخطط المعلنة لشركة “سبيس اكس” الفضائية وشركتها التابعة “ستار لينك” التي تقدم خدمة الإنترنت الفضائية، ويأتي في وقت استحوذت الانترنت الفضائية على الكثير من الاهتمام مؤخرا، بفعل الدور المهم الذي لعبته في الجولة الحالية من المعارك الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وعلي الرغم من وجود الكثير من المشروعات والشركات التي تقدم خدمة الانترنت الفضائية، إلا أن الأمر في هذه الحرب انصب بصورة كاملة علي الخدمة التي توفرها شركة “ستارلنك”، ودخول “ستارلنك” بمفردها لمسرح الحرب الروسية الأوكرانية يجعل من المفيد التعرف عليها، سواء من حيث البنية أو نظام عمل.الفكرة الأساسية لخدمة ستارلنك هي:(استخدام الاتصالات الفضائية في توفير اتصال بالإنترنت بتكلفة رخيصة أو معقولة بين المستخدم والشبكة، بأسلوب سلس مباشر مستقر فائق السرعة وبلا انقطاع، ومن دون نقاط تحكم أو عوائق من أي نوع، كما هو الحال فى بث واستقبال اشارات الراديو والتليفزيون الي المستخدم مباشرة، على أن يكون البث في اتجاهين من والي المستخدم، وليس اتجاه واحد كما الراديو والتليفزيون، وأن يغطى الأرض بكاملها في وقت واحد بصفة مستمرة).
ترجمة الفكرة فنيا وتشغيليا تعني أن النظام الذي تعمل به الخدمة يتضمن التفاصيل التالية:
1ـ تغطية الأرض بكاملها بإشارات شبكة اتصال تسمح بتداول البيانات في اتجاهين، بسرعات عالية ينخفض فيها ما يعرف بمعدل «الكمون» أو البطء في الاستجابة بين المرسل والمستقبل عبر الشبكة إلى أقل مستوى ممكن، وتبدو الشبكة بالنسبة للمستخدم ككيان موحد مدمج، ولا يشعر فيها بالانتقال من نطاق قمر لآخر، تماما كما يحدث في أبراج ومحطات شبكات الهواتف المحمولة على الأرض.
ولتحقيق هذا المطلب، قامت ستارلنك بتصميم نظامها بحيث يضم 42 الف قمراً صناعياً، تدور في مدارات مُنخفضة جداًً موزعة على 3 مجموعات؛ الأولى بواقع 1440 قمراً على ارتفاع 550 كيلومتراً فقط، والثانية بواقع 2825 قمراًً على بعد 1110 كيلومترات، والثالثة تتكون من 7500 قمر على بعد 340 كيلومتراً، وتعتبر هذه الارتفاعات منخفضة جداً إذا ما تمت مقارنتها بالأقمار التقليدية، ولذلك فإن كل قمر سيغطي منطقة جغرافية محددة أثناء حركته، ما يعني أن الإشارات ستصل بقوة أعلى إلى الأرض، وهذا سيساعد في تقليص زمن الاستجابة، وأيضاً تقليص استهلاك الطاقة في أجهزة الاستقبال.
2 – الوصول الي 42 الف قمر، يتطلب تغيير أسلوب انتاج الأقمار الصناعية، بحيث ينتقل من الأقمار الصناعية المتفردة المنتجة بصورة فردية يدوية داخل ورشة تصنيع، إلى الأقمار الصناعية النمطية، المنتجة عبر خطوط انتاج ذات إنتاجية ضخمة وكثيفة داخل مصنع متكامل، وهذا ما نجحت فيه سبيس اكس تماما، وغير قواعد اللعبة في تصنيع الأقمار الي الابد، حيث خفض تكلفة الإنتاج بصورة مذهلة، وجعل تكلفة تصنيع القمر تتراوح بين 200 و500 الف دولار فقط، بعدما كان القمر الواحد يكلف الملايين، مما دفع العديد من الخبراء للقول بأن التغيير الذى احدثته سبيس اكس في تصنيع الأقمار الصناعية، يشبه التغيير الذى فعله هنري فورد في صناعة السيارات، حينما نقلها من التصنيع في الورشة للتصنيع في المصنع.
3ــ نشر شبكة أقمار صناعية بهذا الرقم يتطلب طريقة جديدة تماما في أسلوب وتكلفة نقل الأقمار للفضاء الخارجي، وهذا ما أنجزته سبيس اكس من خلال الصاروخ فالكون والمركبات الفضائية التي تصعد للفضاء ثم تعود للأرض في دورات متتالية، ووفقا للتصميم الموضوع للنظام فإن إطلاق الاقمار بصاروخ فالكون 6 يتم بمعدل مرتين كل شهر، كل مرة 60 قمرا، وهذا في المرحلة الأولي، وفى المرحلة الثانية يتم الإطلاق بمركبة فضائية، تقوم بنقل ونشر الاقمار ثم تعود للأرض استعدادا لرحلة تالية، وهذا من شأنه تخفيض تكلفة الاطلاق إلي %10 من التكلفة المطبقة في طرق اخرى.
4 – جعل الآلاف من الأقمار الصناعية تعمل بصورة مندمجة كشبكة موحدة، يتطلب تقنيات للتواصل فيما بينها، كما يتطلب نظام تشغيل يسمح باستيعابها جميعا في كيان واحد، وطبقا لما أعلنته سبيس اكس فإن المجموعة الأولي من الأقمار التي نشرت في الفضاء، ارتبطت فيما بينها بطريقة غير مباشرة، عبر وصلات لاسلكية مع محطات ارضية، وتم العمل بهذه الطريقة حتي وصل عدد الاقمار إلي 400 قمرا، وعندها بدأ تشغيل نظام الربط المباشر بين هذه الاقمار بأشعة الليزر، ليتم تبادل البيانات فيما بينها وكذلك بينها وبين الارض بسرعة الضوء، بدون محطات أرضية، مما يتيح نشر خدمة الانترنت بمعدل كمون أو بطء ضئيل للغاية، وبتكلفة معقولة، ووصول مباشر للمستخدمين.
على صعيد نظام التشغيل تم تصميم الحاسبات المشغلة للأقمار الصناعية بإصدارات خاصة من نظام تشغيل «لينكس»، وكل عملية إطلاق شهرية لـ 60 من أقمار ستار لينك، تحمل 4000 حاسب تعمل بإصدار من أنظمة تشغيل لينكس، تم تطويره خصيصا داخل سبيس اكس، لتصبح انظمة تشغيل في الوقت الحقيقي «آر تي أو إس»، ويتم تشغيلها بمفهوم «أنظمة الحوسبة الموزعة»، التي تجعل عدد كبير من الحاسبات الصغيرة الموزعة، تترابط معها في شبكة كبيرة واحدة، وحينما يرتفع عدد الاقمار الصناعية الي 32 الف قمر خلال السنوات المقبلة، سيصل عدد حاسبات لينكس العاملة في الفضاء إلي حوالي 2 مليون حاسب.
5 – يتطلب الاتصال المباشر بين الشبكة الموحدة والمستخدمين ـــ من دون عوائق أو محطات أرضية يتحكم فيها أي طرف – توفير وحدات طرفية تستخدم من قبل الأشخاص العاديين والشركات وغيرها، وهنا قامت ستارلنك بتوفير محطة طرفية، عبارة عن طبق لاقط للإشارة، مع جهاز توزيع للخدمة لاسلكيا والربط مع الحاسبات والهواتف المحمولة، والهوائي عبارة عن مستطيل يزن 4.2 كيلو جرام، ويوفر سرعة مقدارها جيجا بايت في الثانية كسرعة نظرية، لكن في التشغيل الفعلي تصل سرعة التنزيل الي 105 ميجا بايت، وسرعة تحميل 12 ميجا، وتقول ستارلنك انها تعمل علي زيادة هذه الأرقام تدريجيا، والخدمة تقم حاليا مقابل 110 دولار اشتراك شهري ورسم خدمة 599 دولار بعد الزيادات الأخيرة.
في النهاية تبلور البناء الهيكلي لشبكة ستار لينك في الأقمار الصناعية النمطية الرخيصة المنتجة من خطوط التصنيع كثيفة الإنتاج، ونظم النقل الرخيصة للمدارات المنخفضة، وشبكة موحدة في الفضاء الخارجي تضم آلاف الأقمار وتتواصل مع المستخدمين في اتجاهين ارسال واستقبال، وأجهزة طرفية للتشغيل المباشر من قبل المستخدمين، والغاية القصوى للنظام إتاحة الفرصة لمليارات البشر للوصول للإنترنت مباشرة من أي مكان في أي وقت بتكلفة رخيصة أو معقولة، بعيدا عن اية عوائق أو قيود من هذا الطرف أو ذاك.
الرئيسية نشرة رقم عدد أكتوبر 2022