أفضت أنشطة الاستدانة الخارجية التي شهدها العالم خلال فترة الستين عاما الواقعة بين 1970 و2020 إلى تضخم وتوحش حجم الدين الخارجي العالمي بصورة لافتة للغاية، حيث باتت قيمة الدين تفوق إجمالي قيمة الاحتياطيات النقدية المتاحة عالميا بما يقارب الثلث، أو بعبارة أخرى تمثل الاحتياطيات النقدية العالمية ما قيمته 71.8 % من اجمالي الدين الخارجي العالمي، ليس هذا فقط، بل هناك الكثير من المؤشرات الدالة على هذا التوحش، من بينها أن إجمالي خدمة الدين سنويا (الأقساط والفوائد وغرامات التأخير)، يشكل ما يزيد قليلا علي خمس قيمة صادرات السلع والخدمات والدخل الأولى حول العالم، أو تحديدا تشكل خدمة الدين 22.7% من اجمالي هذه الصادرات، ما يجعل من الاستثمار في الإقراض واحدا من أبرز الأنشطة الربحية عالميا، بغض النظر عما يخلفه هذا الربح من تعقيدات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة واسعة النطاق في ربوع العالم.
من بين اكثر من 227 أداة لقياس ومتابعة أوضاع الديون الخارجية العالمية، تم في مركز جسور تتبع وتحليل عشر أدوات قياس ذات علاقة مباشرة بأوضاع الاقتصاد الكلي بالدول المختلفة، كما هو موضح بالجدول رقم (1)، للوقوف على ابرز ما انتهت اليه قضية الديون الخارجية عالميا، وذلك استنادا للبيانات الأولية الواردة في قاعدة بيانات البنك الدولي حول إحصاءات الديون العالمية الصادرة نهاية العام الماضي 2022.
عند استعراض المدى الذي بلغته الديون الخارجية العالمية في العام 2020، وهو العام الاحدث في بيانات البنك الدولي، يمكن ملاحظة أن الديون الخارجية قد تمكنت من مفاصل الاقتصاد العالمي، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حركته وأنشطته، فأرصدة الديون تعادل 70.3 % من الناتج القومي الإجمالي العالمي، و23.1 % من قيمة صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي، وخدمة الدين وحدها تعادل 22.7 % من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي، ما يعني أن ما يناهز ربع عائد الجهد والعرق الذي يبذله المواطنون شرقا وغربا يذهب مباشرة الى جيوب الدائنين في صورة فوائد وغرامات تأخير واقساط، بل أن مدفوعات الفائدة على الدين الخارجي، وهي بند بسيط في مدفوعات الديون، تشكل 1.6 % من الناتج القومي الإجمالي عالميا.
يبدو من الجدول أيضا أن عاصفة الديون ضربت كل مناطق العالم تقريبا، باستثناء منطقة أمريكا الشمالية التي لا تظهر بالجدول، واللافت ان منطقة غرب أوروبا الأكثر تقدما وثراءً، تشتد بها وطأة الديون الى مدى لا يقل كثيرا عما تشهده منطقة افريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي تصنف في عداد المناطق الأقل تقدما، ومنطقتا شرق آسيا والمحيط الهادي والشرق الأوسط وشمال افريقيا الأكثر نموا، فالديون تعادل 39.3% من الاحتياطيات النقدية في أوروبا، وخدمة الدين لديها تعادل 44.8 % من قيمة صادرات السلع والخدمات والدخل الاولي.
يلاحظ من الجدول أيضا أن الوضع اكثر سوءا وتعقيدا في مناطق أخرى، ففي منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي تبلغ الديون ما يعادل نحو 110.6 % من الاحتياطيات النقدية ببلدان المنطقة، وتبلغ ارصدة الديون ما يعادل نحو 150.4 % من قيمة صادرات السلع والخدمات، وفي أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي يتدهور الأمر لتصل القيمة الحالية للدين الخارجي الي ما يعادل 139.6 % من صادرات السلع والخدمات، فيما تبلغ الأرصدة الاجمالية للديون ما يعادل 246.4 % من صادرات السلع، وتبلغ ارصدة الديون الخارجية ما يعادل 66 % من الناتج القومي الإجمالي، وترتفع تكلفة خدمة الدين الي 2 % من الناتج القومي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى عالميا على الإطلاق في هذه النقطة.
كشفت التحليلات التي أجريت علي بيانات السنة النهائية لكل عقد من العقود الستة الماضية، أن أنشطة الإقراض والاستدانة لم تفقد زخمها خلال الفترة من 1970 الي 2020، بل ظلت محتفظة لنفسها بقوة دفع متصلة، وكما يوضح الجدول رقم (2)، فإن ارصدة الديون كانت تعادل 22.1 % من الناتج القومي الإجمالي في العام 1970، ثم تصاعدت وقفزت الي 96.4 % في العام 1990، ثم تراجعت الي 43.5 في العام 2010، وبنهاية العقد الثاني من القرن الحالي كانت قد استعادت عنفوانها وأصبحت تشكل 63.7 % من الدخل القومي الإجمالي، وهي نسبة تعادل ثلاثة اضعاف ما كان سائدا في العام 1970.
شيء مماثل حدث في المؤشر الخاص بقياس قيمة ارصدة الديون الخارجية من صادرات السلع والخدمات، ففي العام 1970 كانت قيمة ارصدة الدين تعادل 144.3 %، وقفزت خلال العقدين التاليين لتسجل أعلى ذروة لها في العام 1990، حينما كانت ارصدة الديون العالمية تعادل 443.6 % من قيمة صادرات السلع والخدمات حول العالم، وفي العقدين التاليين سجل هذا المؤشر هدوءً نسبيا، وعادت ارصدت الديون لتمثل 226.9 % من اجمالي صادرات السلع والخدمات في العام 2020.
لم يكن المؤشر الخاص بإجمالي خدمة الدين مقابل صادرات السلع والخدمات مختلفا عن المؤشرين السابقين، إذ انطلق هو الآخر من مركز قوة في العام 1970، وسجلت الديون قيمة تعادل 17 % من صادرات السلع والخدمات، ارتفع إلى 20.6 % في العام 1990، ثم تراجع قليلا خلال العقدين التاليين، ويعود لقوته وعنفوانه مرة أخرى في نهاية العقد الأخير ويبلغ 20.6 % من قيمة الصادرات، وهو رقم يتجاوز ما سجله في نقطة البداية قبل ستين عاما بنحو 3 %.
تكشف الأرقام السابقة عن أمرين مهمين في أنشطة الإقراض والاستدانة، الأول هو قدرة هذه الأنشطة على الانتشار بعمق وقوة عبر مناطق العالم الست، والثاني هو القدرة على الاستمرار بقوة وحيوية ظاهرة عبر ستة عقود، والأمران يؤكدان أن أنشطة الديون الخارجية ظاهرة شديدة الوطأة على الاقتصاد العالمي، وقادرة على أن تحتفظ لنفسها بقوة دفع جبارة، لا تضعف أو تلين إلا لفترات قصيرة، ثم ما تلبث أن تعود الي عنفوانها مرة اخري، ما يؤكد أنها ليست أنشطة عارضة، أو هامشية في مسيرة الاقتصاد العالمي، بل صناعة متجذرةـ تحفر لنفسها باستمرار مواطئ اقدام، ومجالات للحركة والتوسع والتعميق،ساعية لتوليد الربح عبر الإقراض مقابل الفوائد والغرامات، ومستثمرة في ذلك الطلب علي الديون، الذي يقف وراؤه طيف واسع من الطموحات والرغبات والحماس واللهفة علي التنمية، وأيضا طيف من النهم للمال والسلطة، ولذلك كثيرا ما تنتهي الي مآزق تقود بلدان واقتصادات عديدة من ضعف الي ضعف، ومن سيء إلي أسوأ ولا يستفيد منها سوي حفنة صغيرة من الدول وكبار الرأسماليين، شركات ومؤسسات وحتى افراد.