لمن ذهب هذا الكم الضخم من الديون عبر العقود الستة الماضية؟ بعبارة أخرى: من أخذ الديون؟
تقدم البيانات المتاحة إجابة على هذا السؤال من مستويين، الأول هو التوزيع الجغرافي للديون على مستوي مناطق العالم الجغرافية المعتمدة في تقسيم البنك الدولي، والثاني الجهات المتلقية داخل الدول المدينة بكل منطقة من هذه المناطق، وفي هذا السياق كان لمنطقتي أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، ومنطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ النصيب الأكبر من إجمالي الديون بنهاية 2020 حيث سجلت كلاً منهما 6.1 تريليون و5.6 تريليون دولار أمريكي على التوالي، بمعدل زيادة بلغت تقريباً ضعف منطقة شرق أوروبا وآسيا الوسطى (2.9 تريليون دولار أمريكي) وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (2.3 تريليون دولار أمريكي)، تليهم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة جنوب آسيا بواقع حوالي 2 تريليون دولار أمريكي لكلاً منهما، ثم تأتي أخيراً منطقة غرب أوروبا بفارق كبير لتسجل 192 مليار دولار أمريكي، وتوسّط الترتيب المناطق الجغرافية الثلاثة المتبقية وهم جنوب آسيا، الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لتكون حصصهم على التوالي 2.02 و 2.07 و2.3 تريليون دولار، كما هو موضح في الجدول رقم(1).
يتضح من ذلك أن المناطق الجغرافية التي حوت دولاً ضعيفة الدخل لم تكن وحدها التي احتاجت إلى قروض وإنما المناطق الجغرافية ذات الدول الصناعية الكبرى عالية الدخل لم تخلُ هي الأخرى من تلقي قروضاً وتمويلات متنوعة من الجهات المانحة لدعم اقتصاداتها كمنطقة شرق آسيا والمحيط الهادي وهي أكبر ثاني منطقة استحواذا للقروض من المؤسسات والجهات الدولية رغم أن الصين واليابان والكوريتين وماليزيا وسنغافورة جزءاّ من هذه المنطقة.
المستوى الثاني من الإجابة علي سؤال من أخذ الديون، يتعلق بتوزيع الديون على القطاعات والمؤسسات المختلفة داخل الدول المدينة، وبحسب البيانات المتاحة فإن القطاعات الداخلية المتلقية للديون بالدول المدينة تتمثل في الحكومات والبنوك المركزية، ومؤسسات القطاع العام، ومؤسسات القطاع الخاص، والجهات غير الحكومية المضمونة من الحكومة، والجهات غير الحكومية المضمونة من القطاع العام، وجهات القطاع الخاص غير المضمونة، والقروض الموجهة للحكومة كضامن للدين العام.
واذا بدأنا بأول جهتين كان لهم النصيب الأكبر من الديون الخارجية وهما الحكومات والجهات غير الحكومية المضمونة من القطاع العام، اعتماداً على متوسط النسب لكلاً منهما (28.06 % للأولى و29.14 % للثانية) خلال الستة عقود، نرى أن القطاع الحكومي كان القطاع الأعلى في الاقتراض في 1970 (32 %)، ثم انخفض خلال 1980 (21.9 %) بواقع 10 درجات مئوية، ليعاود الارتفاع في 1990 (28.9 %) بواقع 7 درجات تقريباً وفي 2000 (33.3 %) بواقع 4 درجات مئوية، ثم ينخفض مرةً أخرى خلال العقدين الأخيرين (26.75 % و 25.29 %)، أي أن أعلى فترة اقتراض حكومي كانت ما بين 1990 و2000.
وفي حين أن ديون الجهات غير الحكومية المضمونة من القطاع العام ارتفعت في 1990 بنسبة 32% بعد أن كانت 28.5 % و29.5 % في 1970 و1980 على التوالي. لكنها عكس القطاع الحكومي انخفضت نهاية العقد 2000 بنسبة 30 %، واستمر الانخفاض نهاية 2010 (26.6 %) وانتهى بارتفاع طفيف نهاية 2020 (27.9 %).
وقد تفاوتت نسب اقتراض باقي الجهات المَدينة عن الجهتين السابقتين، وتراوحت النسب المتوسطة لها ما بين 2.78 % لأقل جهة مُقترِضة وهي الحكومة كضامن للدين العام و9.02 % للقطاع الخاص و8.7% للجهات غير الحكومية المضمونة من الحكومة.
وبمزيد من النظر إلى الجهات المقترضة بالمناطق الجغرافية خلال آخر عقد والذي انتهى في 2020 سنلاحظ تفاوتٍ كبيرٍ في النسب، حيث إن أعلى نسبة اقتراض- على مستوى القطاعات المُقترِضة- من إجمالي قيمة الديون لكل منطقة جغرافية على مستوى جميع المناطق- كان للقطاع الحكومي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وغرب أوروبا، وجنوب آسيا (35.9 %)، (33.9 %) و(32.5 %) على التوالي. تليها جهات غير حكومية مضمونة من القطاع العام بنسب متقاربةً جداً تتصدرها مناطق أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 29.3 %، 29.2 % و28.4 % على التوالي. ويأتي بعدها في الترتيب الديون غير المضمونة للقطاع الخاص بنسب متقاربة نسبياً في غرب أوروبا، وشرق آسيا والمحيط الهادي، وشرق أوروبا وآسيا الوسطى (20.5 %، 17.9 %، 17.5 %) على التوالي. أما باقي الجهات المُتلقِية للقروض فلا يوجد تفاوت كبير فيما بينها خاصةً القطاع الخاص، والجهات غير الحكومية المضمونة من الحكومة، والقطاع العام حيث سجلت منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وشرق أوروبا وآسيا الوسطى أعلى النسب التي تراوحت ما بين 8 % الى 12 %.
وعلى مستوى التطور التاريخي، يلاحظ من بيانات الجدول رقم (2) أن حصة البنوك المركزية من القروض شهدت أعلى مستوياتها خلال العقود الثلاث الأولى من فترة الرصد، حيث حصلت البنوك المركزية علي 7.40 % من القروض خلال السبعينيات، ثم 6.38 %، ثم 7.96 %، في التسعينيات، لكنها تراجعت في العقود الثلاثة الأخيرة لتصل الي ادني مستوياتها في العقد الأخير بحصة قدرها 2.8 %.
اختلف الأمر في القروض المقدمة للقطاع الخاص، التي مالت حصتها الي التصاعد التدريجي المستمر، لتقفز من 6.44 % في العام 1970، الي 1053 % في العام 2020، وفي غضون ذلك لم تشهد تراجعات ملحوظة، حيث كان أدنى مستوي لها في العام 2000 حينما سجلت 8.49 %، وكان التطور في حصة الجهات غير الحكومية المضمونة من الحكومة اقرب إلي التطور في حصة القطاع الخاص، من حيث الميل للتصاعد، وقلة التراجعات والهبوط، وهو ما لا نجده في حصة القطاع العام، التي مالت في معظم الأحيان إلى الهبوط، حيث بدأت بـ 9.88 % في العام 1970، وانتهت بـ 7.5 % في العام 2020، ولم تشهد قفزات أو تصاعد ملحوظ سوي مرة واحدة في العام 1980 حينما سجلت 14.04 %، ولم تعد لمثل هذا المستوى مرة اخري.
نخلص في النهاية إلى أن نوبات النمو السريع للديون بدأت منذ 1970 عندما انطوت على أزمات مالية أضعفت بدرجة كبيرة نصيب الفرد من الدخل والاستثمار، واشتدت وطأتها بمرور الوقت نتيجة تراكم ديون القطاعات الحكومية والخاصة، ولا سيما انها لم تقتصر على منطقة واحدة أو منطقتين.