تُعدّ المنتجات الزراعية الركيزة الأولى للأمن القومي، إذ تمثل الأساس الذي تُبنى عليه قدرة الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن دورها الحيوي في تأمين احتياجات السكان من الغذاء وتعزيز السيادة الوطنية، غير إن الأرقام تكشف عن فجوة تتسع باستمرار بين القدرة على الإنتاج (الصادرات) والحاجة للاستهلاك (الواردات)حيث بلغ إجمالي الواردات التراكمية في 57 دولة أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في الفترة (2010-2022) حوالي 3.01 تريليون دولار (3012 مليار دولار)، في حين لم تتجاوز الصادرات التراكمية 2.01 تريليون دولار (2022 مليار دولار)، مما خلق عجزاً تراكمياً ضخماً يقارب التريليون دولار. كما هو موضح في الرسم البياني.
يعود العجز التراكمي الضخم في الميزان التجاري الزراعي لدول منظمة التعاون الإسلامي إلى مجموعة من العوامل المتشابكة؛ إذ يعكس ضعف البنية التحتية الزراعية وقصور الاستثمار في التقنيات الحديثة، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية وعدم القدرة على تلبية الطلب المحلي المتزايد نتيجة النمو السكاني السريع، كما ساهم الاعتماد المفرط على الاستيراد في ظل غياب سياسات فعّالة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في تفاقم الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، يُضاف إلى ذلك محدودية التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، حيث لم تُفعّل آليات التعاون الزراعي البيني بين الدول الإسلامية بما يكفُل تقليص الاعتماد على الأسواق الخارجية. فضلاً عن التحديات البيئية والمناخية، مثل التصحر وندرة المياه، التي قلّصت الرقعة الزراعية وأثرت سلبًا على الاستدامة الإنتاجية، ويُعمّق هذه الإشكالية قصور السياسات الزراعية والتمويل الموجه للبحث العلمي ونقل التكنولوجيا، إلى جانب ضعف الكفاءات البشرية المؤهلة لإدارة الزراعة الحديثة، مما جعل القطاع الزراعي هشًّا أمام الأزمات العالمية وغير قادر على تحقيق التوازن بين الواردات والصادرات.
تُظهر بيانات منظمة التجارة العالمية في الفترة من 2010 حتى 2022 نمواً مستمراً في الواردات، في حين أن الصادرات رغم نموها، ظلّت متخلفة عن اللحاق بالطلب، مما أدى لتضخم العجز بشكل مطرد.
شهدت الصادرات الزراعية لدول منظمة التعاون الإسلامي تطورًا ملحوظًا خلال فترة الدراسة، حيث سجّلت نقطة الذروة في عام 2022 بقيمة 225.40 مليار دولار، وهو ما يعكس انتعاشًا في أسعار السلع الزراعية عالميًا إلى جانب ارتفاع إنتاج بعض الدول الكبرى مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا. في المقابل، كانت نقطة القاع في عام 2010 بقيمة 123.19 مليار دولار فقط، مما يعني أن الصادرات تضاعفت تقريبًا خلال اثني عشر عامًا، وهو مؤشر على تحسن نسبي في القدرة الإنتاجية والتصديرية رغم التحديات القائمة.
على الجانب الآخر، سجّلت الواردات الزراعية قفزة تاريخية في عام 2022 لتصل إلى 330.04 مليار دولار، وهو أعلى مستوى خلال فترة الدراسة، ويعكس الارتفاع الحاد في أسعار السلع الغذائية عالميًا نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وما ترتب عليها من اضطرابات في أسواق القمح والحبوب والأسمدة، إضافة إلى تأثير النمو السكاني المتزايد في الدول الأعضاء. أما نقطة القاع فكانت في عام 2010 بقيمة 164.42 مليار دولار، ما يعني أن الواردات تضاعفت مرتين تقريبًا خلال الفترة، وهو ما يبرز اتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك.
يُظهر تحليل الميزان التجاري الزراعي تفاقم العجز بشكل غير مسبوق، حيث بلغ أسوأ أداء في عام 2022 بقيمة -104.64 مليار دولار، وهو أول تجاوز لحاجز المئة مليار دولار، مما يشير إلى أزمة غذائية ومالية حادة تهدد الأمن القومي الغذائي للدول الأعضاء. في المقابل، كان أفضل أداء في عام 2010 بعجز قدره -41.22 مليار دولار، وهو ما يوضح أن الفجوة التجارية اتسعت بشكل كبير خلال الفترة المدروسة، نتيجة تزايد الاعتماد على الاستيراد وعدم كفاية السياسات الزراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
تُظهر كذلك العلاقات البينية بين مؤشرات الصادرات والواردات والميزان التجاري الزراعي دينامية غير متكافئة يمكن وصفها بـ “سباق غير متوازن”؛ إذ تتجه الواردات إلى النمو بوتيرة شبه أُسية مدفوعةً بحساسية الدول للتحولات العالمية، حيث يؤدي أي اضطراب دولي أو إقليمي—كالأزمات الصحية أو النزاعات الجيوسياسية—إلى ارتفاع فوري في أسعار السلع الغذائية نظرًا لعدم مرونة الطلب عليها، وهو ما ينعكس مباشرة في تضخم فاتورة الواردات. وفي مقابل ذلك، ورغم نمو الصادرات الزراعية في بعض الدول، إلا أن هذا النمو يظل محدودًا بطبيعة السلع المُصدّرة التي تتركز غالبًا في منتجات غير استراتيجية ولا تمثل السلع الأساسية التي تعتمد عليها هذه الدول في تلبية احتياجاتها الغذائية، مثل الحبوب ومشتقات الألبان. وينتج عن هذا التباين تدهور مستمر في الميزان التجاري الزراعي، وضعف القدرة التفاوضية للدول في الأسواق الدولية، وازدياد تعرضها لتقلبات الأسعار وقيود التصدير التي تفرضها القوى الكبرى، بما يشكّل تهديدًا مباشرًا لمستويات الأمن الغذائي والأمن القومي على حدّ سواء.

